عرف المغرب مؤخراً انتخابات محلية وجهوية غيرت من جغرافية منتخبي تسيير المدن والقرى والجهات من مختلف الأحزاب السياسية، وهي انتخابات مرت في جو سليم ونزيه خال من اللايقين والمجهول اللذين يطبعان العديد من دول المنطقة، بل إن إجراء مقارنة جيوسياسية مع تلك الدول يمكننا من القول إن المغرب، ومهما نسمعه عن امتعاض بعض الأحزاب المغربية بسبب الخسارة ونزوحها إلى القاع الأسفل في قائمة الأحزاب الفائزة، فإن الميثاق التعاقدي السياسي المطبق في المغرب، مكن البلد من تثبيت دعائم الديمقراطية من خلال انتخابات دورية ونزيهة وشفافة، فالإدارة لا تتدخل في النتائج، ولا توجه الإرادة الشعبية، بل هي تنظم الانتخابات فقط بحكم انتمائها إلى الجهاز التنفيذي وتسهر على سير فرز النتائج، وهذه هي القاعدة عالمياً. وقد شارك في هذه الانتخابات أزيد من 8,3 مليون مغربي ومغربية أدلوا بأصواتهم بكل حرية، مقارنة مع 7 ملايين مصوت سنة 2009 و6,1 مليون مصوت سنة 2011. كما أن الإجراءات المتخذة، مكنت من تخفيض كبير في عدد الأوراق الملغاة، حيث لم تتعد هذه النسبة 11 في المئة مع العلم أن هذه النسبة كانت قد بلغت 18 في المئة في اقتراع 2011. وهكذا يكون عدد الأصوات المعبر عنها هو 7,4 مليون سنة 2015، بالمقارنة مع 5 ملايين صوت سنة 2011، أي بزيادة نحو 50 في المئة. وقد أجمع كل الملاحظين والمراقبين المحايدين، مغاربة وأجانب، على أن هذه الانتخابات قد مرت في أحسن الظروف بشفافية ونزاهة مطلقتين وطبقاً لأحسن المعايير الدولية. وبقي أن هناك أزيد من 10 ملايين مغربي غير مسجل في هذه اللوائح، ويجب الاستثمار في هذه الشريحة لإقناعها بدخول عالم الانتخابات، لأن تسيير الشأن العام يتطلب منتخبين ويتطلب محاسبة ومساءلة وتمثيلاً وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بانتخابات دورية وباختصاصات متنوعة وإدماج الخاص والعام في مسلسل بناء مستقبله بنفسه. ودول أوروبية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وصلت إلى مرحلة النمو الاقتصادي والحداثي المتطور مع إصلاح العقل السياسي والانتخابي والتمثيلي، فاجتهد المشرع والفقيه القانوني ورجل الاقتصاد والمواطن العادي في التأصيل للبِنات مؤسساتية متطورة ومتناغمة مع الحاجيات اليومية والدائمة للناس. وفي المدن المغربية الكبرى كفاس والقنيطرة وطنجة ومكناس والدارالبيضاء ومراكش، وفي مدن أخرى، أعطى الناخبون الأغلبية المريحة لحزب العدالة والتنمية في تسيير المدن، أي تسيير أكثر من 70 في المئة من ثروة المغرب، وقد لمست شخصياً من حديثي مع العديد من فئات المجتمع المتنوعة بدءاً من طلبتي في الكلية، مروراً بفئات مجتمعية متنوعة من أطباء ومهندسين وأساتذة، ووصولاً إلى مسؤولين في قطاعات متعددة، أن هذا التصويت ليس اقتناعاً بالخط الإيديولوجي لحزب العدالة والتنمية، وإنما هو اقتناعاً بخط التحديث العام، واختبار لأسلوبه ونواياه المعلنة، فالإيديولوجيات الزائدة لا تسمن ولا تغني من جوع، وإنما البرنامج الإصلاحي والتنموي والصدق والمسؤولية عند السياسي والمرشح هو الذي ينفع.. وهذه قناعة عند كل الطبقات المتوسطة وغيرها التي صوتت بكثافة يوم 4 سبتمبر الماضي، وهذا يزكي طرحنا الذي لطالما كتبنا عنه هنا في جريدة «الاتحاد»، وهو ضرورة تحويل إيديولوجية حزب العدالة والتنمية إلى حزب محافظ بدل حزب إسلامي. إن الذين صوت لهم المغاربة سيسيّرون المدن لمدة خمس سنوات، فإما أن تكون حاضنة لهم تمكنهم من البقاء فيها إن هم أحسنوا التدبير وأخرجوها من الفوضى العارمة بوضع الكفاءات في مكانها، وتطوير وتصور المشاريع المربحة، وخلق مبادئ القرب من الناس لحل المشاكل والبحث عن الموارد الضرورية وإحداث عقل تنموي جديد قابل لأن يشتبك اشتباكاً منتجاً مع أنماط للتسيير والتدبير تكون جديدة، وإما أن تكون تلك المدن مقبرة لتجربتهم السياسية. وذاكرة الناخب في العالم دائماً ما تكون قصيرة، وغضبته تكون من دون رجعة، يعبر عنها يوم الانتخاب بكل مسؤولية. إن زمن التحكم في الانتخابات قد ولّى، في نظر الجميع... فهناك عقل سياسي جديد في المغرب، وثقافة مجتمعية بدأت تسري في شرايين كل الطبقات في البلاد، وبدأت تتجذر لبِنات سلوك انتخابي جديد حيث إن الصوت الانتخابي أصبح مسموعاً ومقدراً لا يحق لأحد شراؤه أو بيعه أو انتهاك حرمته أو حجزه... فوزارة الداخلية اليوم لا تعطي الهدايا لأي حزب ولا لأي مرشح، والصوت المغربي أصبح ذا حرمة، ومن ما زال يراهن على سلطة المال فهو يراهن على أوهام ذبلت مع دستور سنة 2011، وهذه مسائل انتهت بشكل قاطع في مدن المغرب بفضل الوعي، وستنتهي نهائياً في البوادي والأرياف بفضل تزايد الوعي أيضاً. أكاديمي مغربي