قد نكون في عالمنا العربي أقل الشعوب إدراكاً لأهمية التعددية الثقافية على الرغم من أنها الدافع الرئيسي في جعل الحضارة الإسلامية الأكبر والأكثر إبهاراً عبر التاريخ، والفاصل أو نقطة الإنطلاق الحقيقة بين الماضي والحداثة، والبداية الحقيقية للبحث العلمي، حيث وضعت القواعد الأساسية للعلم بمفهومه الحديث، وحررت المعارف من الخرافات، ولا يعكس التراجع اليوم، ولا ينفي عنها تلك البصمة المميزة التي تركتها في جبين البناء الحضاري، وضمير النوع البشري، وعندما بدأت مرحلة التقوقع على النفس والاسترخاء والصراع على السلطة والنفوذ، بدأت الأصولية والقومية تنتشر في ربوع تلك الحضارة، وبدأت الانتكاسة لحضن العصبية القبلية، وجاء بعدها تحايل الأدب الأوروبي ليخفي عن الأنظار مآثر المسلمين العلمية في جو مبني على الحقد الديني والغرور العرقي والقومي، وهو أول ما تعلمه العرب لاحقاً ليبرعوا فيه دون سائر الشعوب. فلماذا نحن عاجزون وخاصة على المستوى الشعبي عن إدراك قيمة إثراء الثقافات المتنوعة للمجتمعات؟ ولماذا يغيب الوعي المتمثل في ضرورة تبني إستراتيجيات التنوع الثقافي عن أغلب الحكومات العربية؟ أصبح أكثرنا يعاني من الآثار السلبية لعملية العولمة، وأصبح كالوباء الذي دخل في كل بيت، ونحن لا نملك ما نقاومه به من جهة، ولا نعرف كيف نستخدم آليات التعايش الإيجابي معه، وأصبحنا ضمن جموع المعارضة والاحتجاج على العولمة بدلاً من أن نستخدمها لمصلحتنا ونطور نموذج عولمة خاص بنا ندمجه مع ما يناسبنا من حركة العولمة العالمية التي لن تستأذننا في الدخول إلى كل منزل. وما جدوى أن ندينها وأبناؤنا سقطوا بشكل أو بآخر ضحايا لها وكان بالإمكان أن يصبحوا جزءاً من صناعة العولمة، ليكيفوا أنفسهم وفق ثقافتهم وخصوصيتها. ولكن مع غياب رؤية واضحة للتعامل معها كواقع حاصل، تحولنا كعادتنا إلى ظاهرة صوتية تتقن الشجب والشعارات. نعم لا يوجد شك أن للعولمة تأثيرا سلبيا خاصا على التنوع الثقافي في المجتمعات الحديثة بصورة عامة، وخاصة التي رفضتها كلياً في ردة فعل غير واقعية تسبح ضد تيار أو ضد مسارات صناعة ثقافات الشعوب وذوقها وميولها واهتماماتها، وفي فترة ما بعد انهيار عالم القطبية الثنائية وتحول العولمة لنظام عالمي جديد فعال في صياغة مبادئ وقيم ناشئة حتى للحضارات التي كانت تفخر لقرون طويلة بأصالة هويتها وخصوصيتها الثقافية، وبالتالي ازدياد الضغوط على جميع أنواع الأقليات في العالم للإقرار والاندماج أو الإقصاء ووضعها في تصنيف عدم المماثلة الحضارية بعد تقليص دور الدول والقوانين المحلية، في تقاطع واضح بين العولمة والثقافات الوطنية والثقافات المتنوعة داخل المجتمع الواحد، والخضوع التلقائي لقوى الثقافة العالمية. إن فكرة الترابط الثقافي العالمي تشمل مدخلات لجميع الثقافات المتأثرة بالثقافة الأكثر هيمنة، وتكون اللغة السائدة للوصول للعالمية الثقافية هي لغة واحدة فقط وتصبح باقي اللغات، ضحية لهجات محلية عالمية، وذلك ضمن استشراف للمستقبل يسير بخطوات متسارعة نحو الكلية الثقافية، وقد يتحقق بنسبية معينة. وخلال قرن من الآن قد يتبلور فيما يسمى بالثقافة البشرية والتجانس العالمي أو الوحدة العالمية، مما يعني أقل سيطرة للحكومات على رعاياها وظهور نموذج دولة الإقليم، وذلك ضمن تكثيف متواصل للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العالمية، وستكون الحروب بين دويلات الميليشيات المتطرفة والقوات الدولية. ولذلك العولمة مثيرة للجدل في جوهرها، ولن تنجح بالضرورة في إلغاء مفهوم الحدود الفاصلة التي ستصبح أكثر ذكاء وبخدمة ذاتية، وخلق حدود عابرة للقارات ستفصل العالم «الذي يقود» عن العالم «الذي يتبع» القيادة بموجب سلاح التجانس الثقافي وجدران الفصل العنصري المعرفي. وفي طور التطور الطبيعي للعولمة ستتبنى ثقافات جديدة، وتفقد أخرى بريقها من تلقاء نفسها تحت الهيمنة الرأسمالية للشركات متعددة الجنسيات، التي ستعمل على الخصخصة الثقافية لبيع منتجاتها، والحصول على المواد الخام بصورة ستعيد الإقطاعية بثوب جديد كظاهرة اقتصادية واجتماعية، وهي علاقة ستؤدي إلى علاقة قوية بين العولمة والتهجين الثقافي وعولمة الخطاب الثقافي والفكري، وسيصبح مدونو ونشطاء شبكات الإنترنت هم الوجه الثقافي الأكثر شهرة ونفوذاً وتأثيراً على الأجيال، وإنقاذ التعدد الثقافي من عدمه سيكون مرتبطاً بتلك الموجات الثقافية الافتراضية، وسيبقى الدين وفلسفة مفهوم الإنسان والأخلاق الحصون الأخيرة في وجه العولمة، وهي قابلة للهدم مع مرور الوقت، حتى يعود الدين غريباً كما بدأ، وتصبح الأخلاق والإنسانية مفاهيم رجعية لا تناسب النزعة الفردية «الدارونية» لسكان تلك الحقبة المستقبلية. * كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات