ربما لم يتبق ما يُقال عن أحداث الأقصى الأخيرة وتواصل الجرائم الإسرائيلية التي تحميها وترعاها حكومة يمينية متطرفة، تستهدف في نهاية المطاف تهويد القدس بأكملها وقضم المسجد الأقصى والحرم الشريف، وتقسيمه مكانياً وزمانياً. وإسرائيل تنظر الآن إلى العرب والمسلمين ومئات ملايينهم وهي تراهم غارقين في طحان حروب دموية وصراعات تستنزفهم حتى النهاية. وإنجازات المشروع الإيراني «المقاوم» و«الممانع» في المنطقة في إثارة الحروب وتقسيم البلدان من العراق وسوريا إلى لبنان واليمن أحالت فلسطين إلى آخر جدول الاهتمام على الأجندة الإقليمية. فكيف والأمر كذلك يمكن لإسرائيل أن تحسب أي حساب لتصريحات الشجب والإدانة التي تنهال بلا توقف؟ وكيف لها أن تحسب أي حساب وهي لم ترَ ولا حتى مظاهرة في أي بلد من البلدان العربية أو الإسلامية ضد ما تقوم به؟ وعلى كل حال يبقى السؤال الكبير والصعب، ما العمل؟ لن تكرر هذه السطور ما طالب به كثير من المخلصين لجهة استنهاض سياسة عربية وإسلامية قوية وحقيقية. وما سنتوقف عنده هنا هو دور الجهات غير الرسمية في العالم العربي والإسلامي في حماية القدس والوقوف ضد تهويدها المتسارع. إن التهويد المتسارع يهدف ببساطة إلى تحويل القدس كلها، وتحديداً القدس الشرقية، إلى مدينة يهودية خالصة، سمتها اليهودية هي الغالبة من ناحية السكان، والاقتصاد، والسياحة، والزوار. ولا يقع هذا الهدف ضمن الملفات السرية أو غير المباشرة، بل هو هدف معلن لإسرائيل منذ احتلالها بقية القدس في حرب 1967. وقد تمكنت عبر الاستيطان وتغيير الديموغرافيا الفلسطينية في القدس الشرقية، والضغط الاقتصادي والإفقار المتواصل الموجه ضد فلسطينيي القدس، على إجبار الآلاف منهم على الهجرة من المدينة المقدسة، وإخلائها للمستوطنين اليهود. وفي حين كان الوجود اليهودي في القدس الشرقية إبان الحرب المذكورة ضئيلًا جداً، فهو الآن يزيد عن عدد الفلسطينيين. والفلسطينيون المتبقون في القدس يعيشون حالة يُرثى لها، حيث يقبع ما يقارب 80% منهم تحت خط الفقر، ويتعرضون لكل السياسات العنصرية الممكنة لإجبارهم على مغادرة المدينة. وتتحالف مع سياسة إسرائيل العنصرية والتهجيرية جمعيات يهودية متطرفة من دول عديدة في العالم على رأسها الولايات المتحدة وأوروبا. وتقوم هذه الجمعيات بتشجيع الهجرة والاستيطان في القدس، وتعمل على تمويل المهاجرين اليهود المستوطنين هناك، وتعمل على إقامة الاستثمارات الاقتصادية والعقارية التي تساعد على توطين وإسكان القادمين الجدد. وفي الوقت نفسه تعمل تلك الجمعيات وغيرها من حملات تأييد إسرائيل على ترتيب حملات وزيارات دينية وسياحية على مدار السنة. ومقابل هذا الانفتاح اليهودي العريض على القدس والفيضان الذي لا يهدأ ويأخذ أشكالاً عديدة، يتمترس العرب والمسلمون وراء الخوف من التطبيع ويمتنعون طوعاً عن استثمار المسوغ الديني لزيارة القدس، فضلاً عن الاستثمار فيها وتشغيل الفلسطينيين. وما الذي يضير القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية لو توافدت إليها مواكب زوار دائمين من العرب والمسلمين وضمن برنامج يستهدف تعزيز صمود المقدسيين والحفاظ على صورة المدينة الإسلامية المسيحية ومتعددة الأديان وليست المقصورة على الجانب اليهودي؟ سيقول كثيرون إن مثل هذه الدعوة تعني التطبيع المجاني مع إسرائيل، وكأن التطبيع مع إسرائيل ليس قائماً. وكأن التضحية بالقدس وأهلها وهويتها تصبح مقبولة من أجل المحافظة على شعار عدم التطبيع، الذي وإن كان مطلوباً بقوة في ظروف وحالات أخرى، فإنه في حالة القدس قد يتحول إلى سياسة تخدم إسرائيل وتفيدها. وما الذي تريده إسرائيل أكثر من الامتناع الطوعي الإسلامي والعربي عن التوجه للقدس وزيارة الأماكن الدينية والسياحية فيها، والعمل على كسر الصورة والطابع اليهودي الذي يُفرض عليها؟ وما الذي تريده أكثر من الامتناع الطوعي للرأسمال العربي والإسلامي عن الاستثمار في القدس وتشغيل عشرات الآلاف من الفلسطينيين والمساهمة في إبقائهم متشبثين بأرضهم وقدسهم؟ سيقول كثيرون هنا إن فتح الباب للزيارة والاستثمار العربي والإسلامي في القدس سيفتح مجالات وقنوات تستغلها إسرائيل على الفور. وهذا صحيح طبعاً، ولكن نجاح إسرائيل أو فشلها في ذلك مرهون بنا وبسياستنا وكيفية وآلية الزيارة والاستثمار، ويجب ألا يمنع هذا من وضع خطط وقائية تحبط ذلك مسبقاً. ومع كل سنة تمر تتهود القدس أكثر فأكثر وتضيق عليها حلقة التهويد لتصل إلى مربع الحرم الشريف نفسه. ومع كل سنة تمر تضعف شوكة مقاومة المخططات الصهيونية ويزداد الاستعداد النفسي لتقبل مخططات التهويد... ذلك أن تهيئة وتحضير الأجواء لتلك المخططات عبر الاعتداءات المتواصلة صارت أمراً يعرفه الجميع. ومع كل سنة تمر تقل حتى أعداد الفلسطينيين الموجودين في القدس للدفاع عنها، جراء ضغوط الإفقار والتهجير التي تنفذها إسرائيل بشكل متواصل. ومع كل سنة تمر نقصف، نحن في الخارج، إسرائيل بشعارات عدم التطبيع وفتاوى تحريم زيارة القدس عدة مرات، لمنع كل من يفكر في التضامن مع أهلها، ثم نأوي إلى وسائد الكسل فرحين بشعاراتنا بقية السنوات. ----------- أكاديمي وكاتب عربي