لم يكن المفكر والمؤرخ «قسطنطين زريق» (1909 - 2000) أحد أبرز رواد الفكر القومي فحسب، بل كان كذلك من أهم دعاة العقلانية والثقافة العلمية في الثقافة العربية. وقد حذَّر في كتابه «أي غد؟» عام 1957 من أن العالم العربي بحاجة إلى تغيير ثقافته وإعطاء الأولوية للعقلانية والعلم والتكنولوجيا. وكان يتحدث عن مجتمع متقدم متحرك متطور ديناميكي، يحلم بقيامه في المنطقة العربية ذات يوم. وأول مقاييس التقدم، كما قال، مدى «سيطرة المجتمع على الطبيعة واستغلال مواردها». والثاني اعتماد الأسلوب العلمي القائم على العقل، بمعنى «الاكتساب العلمي كيفية وكمية».. وقد حقق العالم العربي هذين الشرطين بعض الشيء، ولكنه فشل في تحقيق المطلب الثالث وهو المقياس الخلقي الأدبي، أي «مقدرة المجتمع عامة، ومقدرة الأفراد الذين يؤلفونه، التغلب على الهوى والطمع والاستئثار، واحترامهم لكرامة الفرد وشخصية الإنسان». ويتساءل زريق، أين العرب، وما موقفهم من الثقافة الحديثة؟ وأين نحن من «العقل المنكب على الطبيعة، يكتشف أسرارها، ويصد أخطارها، ويستخرج كنوزها، ويقرب أبعادها، في سبيل رفع مستوى الحياة وتهيئة الوسائل لتحقيق الحرية والكرامة.. لاشك في أننا لا نزال بعيدين عن تلك المساهمة وعن هذا الإبداع». أين هم العلماء العرب الذين يقفون في مصاف علماء اليوم، وأين المؤسسات التي ترعى البحث العلمي.. «بل أين هو الرأي العام المتنبه الذي يدفع السلطات الحكومية وسواها إلى شيء من هذا؟ ألسنا نرى بعض النابهين من شبابنا يتلمسون طريقهم إلى الغرب، أو يبددون مواهبهم في سبل أخرى؟». أين نحن على صعيد الإنتاج الأدبي؟ أين الشعر العربي؟ أين الإنتاج العربي العالمي في الرسم والنحت والموسيقى والمسرح؟» لحسن حظه، لم يمتد به العمر لتصدمه من الجذور جرائم تنظيم «داعش» في موطنه سوريا.. وفي العراق. وكان الدكتور زريق قد ناشد الدول العربية الاهتمام بدعم الثقافة وعدم ترك الأدباء والمثقفين والفنانين لمصيرهم.. وقال: «لقد مضى الوقت الذي كان فيه زاد العلماء خبزاً وماء، وأصبح طريق الإعداد العلمي طويلاً شائكاً ومتطلبات الإنتاج الفكري كثيرة عزيزة المنال: كذلك لم يعد من المعتقد أن الأديب لا يمكنه أن يأتي بالروائع إلا إذا افتقر وشقي وصارع ظروف الزمان وحاجاته. ولعل من أقوى أسباب ضآلة الإنتاج الثقافي في المجتمع العربي الحاضر أن رجاله لا يستطيعون أن يتفرغوا له، بل يضطرون إلى كسب معاشهم من أعمال أخرى تستأثر بنشاطهم ووقتهم وأعصابهم ولا تترك لهم متسعاً للانصراف إلى عملهم السامي». ومن بين أفكار زريق التي تستحق الاهتمام اليوم والنقاش ما جاء في حديثه عن مستقبل المجتمعات العربية. فالمطلوب كما يقول ليس فقط «المجتمع القادر على البقاء»، بل «الأهم للمجتمع العربي المنشود هو أن يسمو فوق مجرد القدرة على البقاء، فيغدو مستحقاً للبقاء وحريّاً به»! وقد اعترف زريق بحجج معترضيه من أن استحقاق البقاء أمر لا يحتمل الجدل، وها هي النظم الدولية تجاهر بهذا الحق، وها هي الشعوب المتخلفة تستند إليه للتحرر من قيودها. غير أن لاستحقاق البقاء مقياسين رئيسيين في رأيه: «أولهما مقدار ما يوفره المجتمع لأفراده من كرامة، والكرامة تصدر عن الحرية، الحرية من الخوف: خوف الجوع والمرض والحرية من التحكم. أما المقياس الثاني، فهو مقدار مساهمة المجتمع في الحضارة الإنسانية. وما هذه الحضارة سوى نتاج الجهد الإنساني، لاكتشاف الحق وتوفير الخير والجمال. والمجتمعات الإنسانية تختلف في نوع مساهمتها في هذا النتاج. فهي تظهر على مسرح التاريخ وتمضي، ولا يبقى منها إلا ما تبدع وتعطي». غير أن استياء المفكر والمؤرخ زريق وتشاؤمه يزدادان عند هذه النقطة، فيستأذن القارئ في اعتراف مؤلم! ويقول: «ليسمح لي القارئ بأن أكون صريحاً مع نفسي ومعه، وأن أجابه الحقائق عارية خالصة، فأحكُّ مجتمعنا العربي الحاضر بمحك هاتين الصفتين. إني إذا ما فعلت ذلك خرجت بنتيجة تهزني من أعماق: هي شكّي بمقدرة مجتمعنا هذا على البقاء، بل باستحقاقه للبقاء. لننتبه من التخدر الذي اعتدنا أن نركن إليه، فنجابه الخطر على حقيقته. النكبة التي لم نعها بعد حق الوعي، تفرض علينا، قبل كل شيء، الصراحة في مجابهة الواقع، والجرأة على أن نرى ذاتنا كما نحن، وأن ندين أنفسنا قبل أن يديننا الآخرون». لقد أُطلق على د. قسطنطين زريق أكثر من لقب بينها: شيخ المؤرخين العرب، المربي النموذجي، مرشد الوحدويين، داعية العقلانية في الفكر العربي الحديث.. هل كان على حق في نظرته المتشائمة لمستقبل العالم العربي؟