بعد أن عشت في واشنطن نحو أربعة عقود، كنت أظن أنني تجاوزت مرحلة الغضب من السياسيين الذين لا يتوقفون عن إلقاء الكلام على عواهنه وبما يؤدي أحياناً إلى تحريف التاريخ والتجاوز على المنطق، وقد كشف النقاش الجمهوري لهذا الأسبوع عن عدد من الأكاذيب الملفقة جعلت الدم يغلي في عروقي، ولسوء الحظ، فإن تلك المغالطات لم تقع في دائرة التدقيق والتمحيص الإعلامي الذي تستحقه بعد أن طغت عليها التغطية المكثفة للسؤال العصيب الذي تم توجيهه إلى «دونالد ترامب» من بعض مؤيديه خلال التجمع الجمهوري الذي نظم في ولاية نيوهامبشر. وكان السؤال مخيفاً في الحقيقة، وهو: «لدينا في هذا البلد مشكلة عويصة اسمها المسلمون، ونحن نعلم أن رئيسنا واحد منهم، ولابد أنك تعلم أيضاً أنه غير أميركي، ونحن ندرب الكثير منهم في المخيمات على رغم أنهم يريدون قتلنا، وسؤالي هو: متى يمكننا التخلص منهم؟». وكانت طريقة تهرب «ترامب» من الجواب أكثر مدعاة للقلق عندما قال: «نحن نسعى لمعالجة العديد من القضايا المختلفة، والكثير من الناس يقولون إن أشياء سيئة تحدث بالفعل هنا وهناك، ونحن عازمون على معالجة الكثير منها ومن غيرها». إلا أن وسائل الإعلام الموجهة أغفلت نقطة مهمة عندما سمحت للنقاش غير المنطقي الذي دار بين أعضاء الحزب الجمهوري بالمرور في غياب آلية النقد والتمحيص. والشيء الذي غاب عن اهتمام الصحافة في أثناء انتقادها لطريقة معالجة السؤال، هو أن المواقف التي تم التعبير عنها عكست العقلية التي تحولت إلى تيار فكري في الواقع الراهن للحزب الجمهوري، وكنا قد لاحظنا هذه الظاهرة في حملة عام 2010 عندما أطلق الحزب الجمهوري حملة وطنية مناهضة لمشروع بناء مركز إسلامي في الجهة الجنوبية من حي مانهاتن. ثم تكررت مرة أخرى عام 2012 عندما تعهد خمسة من الطامحين الجمهوريين لمنصب الرئاسة بألا تكون هناك أي خدمات إسلامية في إدارتهم، واتضح هذا التوجّه أكثر في 27 ولاية من التي سنّ فيها المشرعون التابعون للحزب الجمهوري قوانين تحظر العمل بتعاليم الشريعة الإسلامية في ولاياتهم. وبعد سنوات من العمل بتلك القوانين، أصبح هذا التوجّه يمثل تياراً فكرياً متأصلاً في تعاليم الجمهوريين. وبناء على استطلاع آراء أجريناه بتاريخ 1 سبتمبر 2015، عبر 54% من الجمهوريين بشكل عام و66% من مؤيدي «ترامب» بشكل خاص عن اعتقادهم بأن الرئيس أوباما مسلم، ويعتقد 29% من عموم الجمهوريين و61% من مؤيدي «ترامب» أن أوباما لم يولد في الولايات المتحدة. ويمكننا أن نذكر أيضاً أن الغموض المتعلق بمكان الولادة يطال «ترامب» ذاته. وأجد لزاماً علي القول هنا إن الزعم بوجود معسكرات لتدريب الإرهابيين المسلمين في كل مناطق الولايات المتحدة، وهي السلعة الدعائية التي أدت إلى نشوء «جماعات الإسلاموفوبيا» في أقصى اليمين، وأطروحات القوميين المتشددين على مواقع الإنترنت، أصبحت كلها تدر أموالاً طائلة وتجذب الكثير من المشاهدين عند معالجتها على قنوات تليفزيونية شهيرة مثل برنامج «عرض فوكس نيوز». وإذن فلماذا يمكن لأي إنسان أن يتوقع من «ترامب» معاكسة آراء ثلثي مؤيديه؟ ولنكتفِ بهذا القدر من الحديث عن «ترامب»، وأريد الآن العودة للحديث عن بعض طروحات «جيب بوش» التي لم تُكتب لها النجاة من النقد، وهو الذي يعتبر في نظر عتاة الجمهوريين واحداً من المرشحين الأكثر جدية واحتكاماً إلى العقل والمنطق. وجاءت أولى تلك الأطروحات في بداية حوار على قناة «سي إن إن» استمر لمدة ثلاث ساعات عندما قال بوش: «إن هذه الإدارة التي يقودها الرئيس أوباما وهيلاري كلينتون، خلقت لنا حالة من غياب الأمن إلى درجة لم نكن لنتصورها أبداً. ولم يعد هناك مكان واحد في العالم نشعر بأنه اليوم أفضل مما كان قبل ست سنوات ونصف». وبعد مرور وقت على بداية هذا الحوار، وعندما عبر «ترامب» عن معارضته للحرب التي أشعلها جورج بوش الابن في العراق، تحوّل «جيب بوش» إلى الموقف الدفاعي وقال: «وماذا تعرف عنه؟، عندما يتعلق الأمر بأخي، عليك أن تعرف شيئاً مؤكداً واحداً وهو أنه جعلنا أكثر أمناً، وهو الذي أرسل إشارة واضحة بأن الولايات المتحدة ستبقى قوية وستحارب الإرهاب الإسلامي، وبالفعل تمكن من جعلنا نعيش بأمان أكثر».