قيام موسكو مؤخراً باستضافة المنتدى الشرقي الاقتصادي في فلاديفوستوك السيبيرية، وحرص الرئيس فلاديمير بوتين على حضور المنتدى شخصياً، وإلقائه كلمة زاخرة بالوعود والمحفزات والاستثناءات للمستثمرين الأجانب، يمكن فهمه في إطارين: الأول هو حرص روسيا على تحميل الأقطار الآسيوية مسؤولية تنمية أقاليمها الشاسعة المهملة في أقصى الشرق. ففي كلمته أكد بوتين أن شركاء بلاده المحتملين في تنمية تلك الأقاليم (مثل بريموري، وياقوتيا، وخاباروفسك) سيحصلون على فرص متميزة وإعفاءات ضريبية ومساندة من الدولة لجهة توفير البنى التحتية الضرورية لمشاريعهم، مضيفاً أنه يتطلع إلى رؤية ميناء فلاديفوستوك وقد تحول إلى قاعدة للصناعة والنقل والمواصلات تخدم منطقة آسيا المطلة على المحيط الهادي بأكملها، ومؤكداً عزم بلاده على إنفاق نحو 7.5 مليار دولار من الآن وحتى 2017 من أجل تطوير وزيادة طاقة الخط الحديدي العابر لسيبيريا بغية تسهيل حركة نقل البضائع من الشرق الأقصى إلى أوروبا. والمعروف أنّ موسكو شرعت منذ يوليو المنصرم في تعديل بعض القوانين بهدف منح "فلاديفوستوك" صفة الميناء الحر لمدة 70 عاماً. وبموجب تلك التعديلات صارت الضرائب أقل، وإجراءات التفتيش الجمركية أخف، كما تم تسهيل الحصول على تأشيرات الدخول وعبور شحنات البضائع. أما الإطار الثاني، فهو حرص موسكو على التوجه شرقاً بدلاً من الغرب، لإقامة شراكة طويلة المدى مع دول شرق آسيا في مجال الطاقة، بدليل أن بوتين لم يخف أثناء المنتدى عزم شركة «روزنيفت» الروسية المملوكة للدولة، على استثمار 19.2 مليار دولار في مشاريع الطاقة الآسيوية. هذا ناهيك عن الصفقات النفطية التي تمت على هامش المنتدى، والتي كان أبرزها صفقة باعت بموجبها «روزنيفت» 15% من حصتها في شركة «فانجكورنيفت» الروسية للنفط إلى شركة نفط هندية مقابل 1.275 مليار دولار، وصفقة أخرى تتعاون بموجبها «روزنيفت» مع شركات يابانية لتطوير حقول نفطية مغمورة في فيتنام. على أن أكثر ما استرعى نظر المراقبين هو التمثيل الصيني الرفيع في المنتدى، والذي تجسد في حضور عشرة وزراء وأربعة حكام مقاطعات بقيادة نائب رئيس مجلس الدولة الصيني «وانج يانج»، ناهيك عن مشاركة مديري 75 شركة صينية رائدة (15 منها صُنفتْ العام الماضي ضمن كبريات شركات العالم، لأنها حققت عوائد بلغت 1.7 تريليون دولار). وقد أعطى هذا مؤشراً واضحاً على رغبة الصينيين في إقامة شراكة بينية قوية مع الروس، «بشرط أن تكون ذات فائدة للجانبين، وأن تخضع لقواعد السوق» على حد قول «وانج يانج» الذي برهن بقوله هذا أن علاقات البلدين لا تخلو من طابع التنافس، ولاسيما في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية، وبيع السلاح وتكنولوجياته، ناهيك عن أن شقها التجاري يشكو من خلل بسبب أن معظم الصادرات الروسية للصين هو من المواد الأولية غير المصطنعة، بعكس الصادرات الصينية لروسيا. من جانبهم، أعطى الروس اهتماماً خاصاً بالتعاون مع بكين في مجال النفط والغاز، خصوصاً وأن الجانبين سبق لهما التوقيع على أكثر من صفقة في العامين الجاري والماضي. ففي مطلع سبتمبر الجاري مثلاً وقعت «روزنيفت» الروسية صفقة مبدئية مع السلطات النفطية الصينية بمبلغ 30 مليار دولار يستحوذ بموجبها الصينيون على 49% من أسهم شركة «تيومننيفتجاز» الروسية. وبالتزامن تقريباً وقع عملاق الغاز الروسي «غازبروم» اتفاقاً مع مؤسسة النفط الوطنية الصينية لمد الصين بالغاز الروسي المستخرج من حقول روسيا في أقصى الشرق، كما تعهدت «غازبروم» في الوقت نفسه بالانتهاء من مشروع خط أنابيب الغاز ما بين سيبيريا والصين بحلول 2018. وكان هذا المشروع قد تم الاتفاق عليه بين الجانبين في مايو 2014 بكلفة 400 مليار دولار، من أجل أن تزود روسيا الصين بنحو 38 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لمدة 30 عاماً. وهذا الاهتمام الروسي بتعزيز التعاون مع الصين لم يأت من فراغ. إذ أملته عوامل كثيرة أولها: ارتباط البلدين بمعاهدة تعاون وصداقة وحسن جوار منذ 2001 حينما قرر بوتين ونظيره الصيني الأسبق «جيانج زيمين» تأطير علاقات بلديهما بإطار استراتيجي. وثانيها: تجاور البلدين عبر حدود طولها 4300 كلم، مما يسهل عملية التبادل التجاري بينهما والتي شهد قيمتها تصاعداً مضطرداً، بدليل ارتفاعها من 4.3 مليار دولار في 1995 إلى 87.5 مليار دولار في 2012. وثالثها: السوق الواعدة في الصين في ظل تحقيق الأخيرة لمعدلات نمو مرتفعة منذ مطلع التسعينات، وتنامي القوة الشرائية لـ 1.3 مليار إنسان صيني. ورابعها: المكانة التي تحتلها الصين كثاني أكبر اقتصاد في العالم، إضافة إلى كونها أكبر مستهلك للنفط والغاز على مستوى العالم، وهو ما جعلها تنوع مصادر وارداتها من الطاقة وتبحث لنفسها عن خطوط إمداد جديدة، الأمر الذي يلتقي مع أهداف روسيا الغنية بالنفط والغاز، والتي تحاول تقليل اعتمادها على دول الاتحاد الأوروبي لجهة تسويق مواردها من الطاقة والمنتجات الهيدروكربونية، وكذلك البحث عن شريك موثوق يستثمر في مكامن النفط والغاز الواقعة في أقصى سيبيريا، وبطبيعة الحال لايوجد شريك أفضل من الصين التي تقع جغرافيا بالقرب من تلك المكامن. وخامسها: استراتيجية روسيا للطاقة حتى عام 2030، والتي تشتمل على هدف تحويل البلاد إلى أكبر مصدر عالمي للطاقة بحلول ذلك العام، مع زيادة حصتها في واردات الصين ثم اليابان وكوريا الجنوبية من النفط والغاز والبتروكيماويات إلى 27% صعودا من مجرد 8%. د. عبدالله المدني *باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين