هل خطر على أحدكم يوماً أن يحزم أمتعته ويُودّع أهله وأصدقاءه ويُغادر بعيداً إلى مكان لم تطأه قدماه من قبل؟ هل من الممكن أن يمحو المرء من ذاكرته صور الذين أحبهم وأحبوه لمجرّد التطلّع لخوض تجربة جديدة لم يُجرّبها من قبل؟ هل هناك على وجه الأرض أناس يملكون حقّاً الشجاعة الكافية لترك كل شيء خلفهم، وفتح صفحات بيضاء في حيواتهم بتواريخ حديثة وبعناوين مُغايرة وتدوين قائمة بأسماء غرباء لا يعرفون بعد شيئاً عنهم؟ كانت مجموعة من الشركات الخاصة قد قررت تمويل رحلة سفر إلى كوكب المريخ على أن تكون الرحلة ذهاباً فقط من دون عودة، والغريب في الأمر أن عددا من المتطوعين تقدّموا لخوض هذه التجربة المثيرة. وقد كان من ضمن المتطوعات السيدة «سونيا» من ولاية فرجينيا الأميركيّة حيث قررت تجميد قلبها بالموافقة على ترك عائلتها ومعارفها، وكل ما يمتُّ بصلة لعالمها إلى الأبد، والانضمام للفريق الذي سيُغادر الأرض إلى كوكب المريخ عام 2026م أي بعد أحد عشر عاماً من الآن. كالعادة في كل الدنيا! ألقى الناس هناك اللوم على «سونيا»، واعتبروها امرأة أنانيّة وغير مسؤولة كونها قررت التخلّي عن مسؤولياتها تجاه أسرتها لتحقيق حلم كان يُسيطر عليها طوال الوقت! ولم يتعرضوا لانتقاد زوجها الذي رحّب بالفكرة منذ بدايتها رغم غمز البعض عليه، وأنه أراد التخلّص من زوجته بخباثة! وأنه شجّعها على الرحيل كي يخلو له الجو مع امرأة أخرى استحوذت على تفكيره! وقد اضطر الزوج بعد الضجيج الذي أثاره الإعلام، التصريح أمام شاشات التلفاز بأن أمر سفر زوجته للمريخ أكبر منه، وأن الرحلة هي محاولة للإجابة على تساؤلات وجوديّة أكثر أهمية من افتقاده لزوجته التي يحبها! متابعاً بأن نجاح هذه المهمة في تأسيس مستعمرة بشريّة على سطح المريخ، سيُغيّر التاريخ من خلال توسيع حدود الحياة البشريّة خارج كوكب الأرض. هل سيشهد أحفادنا هذا اليوم الذي لن نراه بالتأكيد، أم أنه ضرب من الخيال العلمي الذي تصوّره لنا عادة الأفلام الهوليوديّة؟ هل سيُصبح كوكب المريخ ذات يوم مكاناً آمناً للناس الذين تعبوا من تتبع أخبار العنف ومن قصص القتل ومن صور الدمار؟ هل سيغدو كوكب المريخ ملاذاً للمهاجرين الذين ضاقت بهم أوطانهم؟ لا أعرف! ولكن بالرغم من كل هذه الوقائع المؤلمة التي تصل لآذاننا إلا أنني أرى بأن كوكب الأرض يظل أجمل الكواكب. صحيح أننا عثنا فيه فساداً، ودمّرنا تربته الخصبة، وتسببنا في جعل مناخه أكثر حدة وتقلباً، إلا أنه يبقى الحب الأزلي عند سكّان الأرض حتى وإن كانت الكواكب الأخرى مغرياتها أكبر! الحديث سابق لأوانه، ولكن «سونيا» وغيرها من المتطوعين والمتطوعات الذين قرروا مغادرة الأرض إلى الأبد بعد عقد من الآن لا أعرف ماذا سيكون شعورهم، وهم يتطلعون من نافذة قمرتهم الفضائيّة لصورة الأرض بألوانها المبهرة التي تجتمع فيها زرقة البحار وتعرجات الأنهار وخضرة التربة ومناظر الجبال المتداخلة! تخيّلتُ السيدة سونيا تبكي عندما تحضرها ملامح زوجها الذي تركته خلفها، واللحظات السعيدة التي قضتها معه، وستتذكر بشوق، وهي تسير فوق سطح المريخ كل المواقف المفرحة مع رفيقات الطفولة والصبا! قد أكون عاطفية في تفكيري ومتعصبة حول تمسكي بأرضي التي أحبها، ولكن بالتأكيد هناك كثيرون يُخالفونني الرأي، ويتمنون لو وجدوا كوكباً ينعمون بالسلام على سطحه بعد أن ضاقت بهم السبل وملّوا من مشاهد الدماء التي صارت ضمن مسلسل حياتنا اليومية. لكنها الأرض، حبنا الأول وستظلُّ الأخير! ـ ــ ـ ـ ــ كاتبة سعودية