لم يخطر ببال المتظاهرين لإصلاح النظام السوري في منتصف مارس 2011 أن الأحداث ستصل إلى تفكيك سوريا وتحولها إلى تركة يتقاسمها الروس والإيرانيون الطامحون إلى السيطرة على المنطقة العربية، وما يحدث يذكرنا بما حدث قبل مئة عام حين نهضت الثورة العربية الكبرى للخلاص من الحكم العثماني فوقعت في فخ اتفاقية سايكس- بيكو التي ينسى فيها العرب دور روسيا القيصرية. ومن المفارقات أن يدور اليوم ذات الحديث عن سايكس- بيكو جديدة، وأن تسارع روسيا لأخذ حصتها سلفاً كيلا تخفق كما حدث قبل مئة عام. ويبدو أن موقف روسيا التي بدأت باحتلال سوريا مؤخراً محير ومريب، وهي تتخبط في قراراتها ورؤيتها لدورها في القضية السورية، فقد قدمت نفسها وسيطاً لإنهاء الصراع، واستضافت عدة مؤتمرات للحوار، وبررت دعمها العسكري الضخم للنظام بأنه تنفيذ لاتفاقيات مع الحكومة السورية! لكن هذا الوسيط الذي يفترض أن يكون محايداً ونزيهاً يعلن الانحياز ضد الشعب السوري، ولا ينسى السوريون تصريحات لافروف بمنع أهل السنة من الوصول إلى الحكم! ويبدو أن هذه التصريحات دخلت مرحلة التنفيذ مع شعور روسيا بضعف قدرة النظام على البقاء، فزجت بقواتها العسكرية في الساحل السوري، وقيل إن بعض وحداتها وصلت إلى الداخل وهذا يعني احتلالاً، وإن كان بموافقة الحكومة التي لا يعترف الشعب بشرعيتها فهي التي اضطرته إلى الهجرة من وطنه خوفاً من صواريخها وبراميلها العشوائية المتفجرة. ويعتقد كثير من السوريين أن هذه الخطوة الروسية المتقدمة لدعم النظام في سوريا متفق عليها مع قادة المجتمع الدولي! والعجب أن نرى روسيا التي رفضت التدخل العسكري الأوروبي الأميركي يوم قضية الأسلحة الكيماوية في الغوطة، تتدخل اليوم عسكرياً بشكل مباشر، ويصعب فهم ذلك تحدياً لأولئك الذين أذعنوا لنصيحتها في عدم التدخل والاكتفاء بإلقاء القبض على الأسلحة دون مساءلة من ارتكب الجريمة، وقد قال كثير من المعارضين يومها «لا نريد تدخلاً عسكرياً من أية جهة كانت، لأن نتائج التدخل الخارجي ستكون أشد قسوة وقد تتحول إلى احتلال، فما نريده هو حل سياسي». ويستبعد كثير من السوريين أن تكون الولايات المتحدة قبلت بهذا الزخم الضخم من التدخل الروسي لمحاربة «داعش»، وهي تعلم أن الهدف الأول لروسيا هو دعم النظام، وأنها تقترح حلاً غير واقعي حين تطرح التحالف بين المعارضة والنظام لمحاربة «داعش» والإرهاب، وكأن شيئاً لم يكن بين النظام والشعب قبل أن يظهر «داعش»! ويتساءل السوريون: هل يجد بعض قادة العالم أن استقبال عشرة ملايين لاجئ سوري في دولهم أهون عليهم من رؤية الشعب السوري يبني دولة مدنية ديمقراطية لا استبداد فيها ولا معتقلات ولا ديكتاتورية؟ وقد بدا غريباً أن ترفض الولايات المتحدة إنشاء منطقة آمنة لملايين السوريين الهاربين من الموت والعذاب، وأن تضطرهم لهذا التشرد التاريخي الذي تتلقاه أوروبا اليوم بمشاعر إنسانية قابلة للتغير، وإذا كان الأشقاء العرب قد تحملوا الكثير من الأعباء في بدايات النزوح فإن بعضهم بدأ يضيق به ويراه فوق طاقته، وكذلك نخشى أن يصير الوضع في دول اللجوء في أوروبا وسواها! أية معالجة فاشلة هذه التي ترى الحل الأمثل للقضية السورية هو تأمين هجرة جماعية لشعب من أعرق شعوب العالم حضارياً، يترك وطنه وبيوته للغرباء القادمين من إيران وسواها، ليحتلوها، بينما هو يبحث في الفيافي والبحار عن موطئ قدم آمن يحمي بها أسره، مغامراً في تقبل احتمال الموت غرقاً في البحار، وبالذل والإهانة أمام الأسلاك الشائكة التي توضع في وجهه في دول العبور قبل أن تتلقفه يد خيرة تؤويه وتوفر له الأمان. وأسئلة السوريين تترى: هل تزج روسيا بكل هذه القوى العسكرية دفاعاً عن النظام السوري وخوفاً عليه فقط؟ أهي تريد دعم حضور إيران أم تخشى أن تنفرد إيران بالتركة السورية وحدها؟ أم هي تستغل تردد الإدارة الأميركية واضطرابها في إيجاد حل فترى الفرصة مناسبة لاستعادة الدور السوفييتي في المنطقة؟ ومهما تكن الإجابات فإن تداعيات الغزو الروسي الراهن لسوريا ليست خطراً عليها وحدها، وهذا ما يجب الانتباه إليه قبل أن يتسع الخرق على الراقع.