قد تكون هذه أكثر تركة مفاجئة من تركات أوباما في السياسة الخارجية: ذلك أن الرئيس الأميركي لم يكن شاهداً على كارثة إنسانية وثقافية فحسب، وإنما عمل على تخدير الشعب الأميركي وجعله لا يشعر بأي مسؤولية عن المأساة. في أواخر الستينيات، أدت المجاعة في منطقة بيافرا النيجيرية لظهور حركة تضامن عالمية. وقبل نحو عقد من اليوم، تعبأت الكنائس من أجل تخفيف المعاناة عن سكان دارفور. وعندما دمرت «طالبان» تماثيل قديمة لبوذا في باميان، عبّر العالم عن الصدمة لفقدان تراث إنساني. أما اليوم، فإن تنظيم «داعش» ينسف آثاراً ثقافية لا تقدر بثمن في تدمر، ونصف الشعب السوري اضطر للنزوح، وأكثر من ربع مليون منهم قُتلوا. ومع ذلك، فإن لافتات «أنقذوا دارفور» لم تُستبدل بلافتات «أنقذوا سوريا». أحد أسباب ذلك أن أوباما، الذي وعد خلال حملته الانتخابية باستعادة مكانة الولايات المتحدة الأخلاقية، كان دائماً يقول للأميركيين مطمئِناً إنه ليس ثمة ما يمكن للولايات المتحدة القيام به، مقللًا من شأن المعارضة السورية باعتبارها مجرد مجموعة من «الأطباء والمزارعين والصيادلة السابقين، إلخ». وكان يشدد على أننا لن نزيد الطين إلا بلة إذا ما تدخلنا، حيث قال في حوار مع مجلة «نيو ريبابلك» في 2013: «إنني أدرك ربما أكثر من أي شخص آخر ليس نقاط قوتنا وقدراتنا فحسب، ولكن أيضاً نقاط ضعفنا». كما ألمح إلى أنه لأننا لا نستطيع حل كل المشاكل، فربما علينا ألا نسعى لحل أي منها حيث تساءل: «كيف أقيّم عشرات الآلاف الذين قُتلوا في سوريا مقابل عشرات الآلاف الذين يقتلون حالياً في الكونغو؟» (رغم أنه في ذلك الوقت لم يكن الآلاف يُقتلون في الكونغو). وفي المناسبات القليلة التي كان يهدد فيها الضغطُ السياسي أو فظاعات المعاناة السورية بتسفيه أي عذر أو ذريعة لعدم التحرك، كان يَعد بعمل ما، سواء في تصريحات أو تسريبات للبيت الأبيض: عمل على شكل تدريب لفصائل من المعارضة السورية، أو إقامة منطقة آمنة على الحدود التركية. لكن حالما ينصرف اهتمام الرأي العام لموضوع آخر، يتم التخلي عن تلك المخططات أو يتم تقليصها إلى مستويات لا معنى لها (على غرار تدريب 50 جندياً في السنة، وعدم القيام بأي شيء على الحدود التركية). والأدهى من ذلك أنه كان يتم تسويق عدم التحرك الأميركي هذا ليس باعتباره شراً لابد منه وإنما كإنجاز مهم؛ فأخيراً، باتت الولايات المتحدة تقود العالم بالرأس وليس بالقلب، وبتواضع وليس بتعجرف. و«الواقعيون» يقولون إن الولايات المتحدة تتسبب لنفسها في المشاكل عندما تسمح للمثل أو العواطف بالسيطرة عليها. فأميركا أرسلت جنوداً لإطعام الجوعى في الصومال، مثلا، لكنها فُجعت فيهم، مثلما يروي فيلم «بلاك هوك داون». والواقع أن الواقعيين على حق في أن على أميركا أن تأخذ بعين الاعتبار المصالح والقيم معاً، وأن تتصرف في هذا الموضوع بتؤدة وروية، وأنها لا تستطيع إنقاذ الجميع. غير أنه يجدر بحجة تخلو من القيم أن تكون، على الأقل، قادرة على إثبات أن الغاية تبرر الوسيلة، والحال أن النتائج الاستراتيجية لسياسة أوباما الانعزالية كانت كارثية على غرار عواقبها الإنسانية. فعندما قام أوباما بسحب كل الجنود الأميركيين من العراق، عبّر المنتقدون عن خشيتهم من أن يعقب ذلك انعدام الاستقرار، لكن لا أحد منهم توقّع ظهور دولة إرهابية حقيقية. وعندما قال في أغسطس 2011 إن «الوقت حان ليتنحى الرئيس الأسد (عن السلطة)»، عبّر المنتقدون عن خشيتهم من أن تكون تلك مجرد كلمات فارغة لا معنى لها، لكن قلة قليلة فقط توقعت حجم الكارثة المقبلة: ليس وحشية الأسلحة الكيماوية و«البراميل المتفجرة» فحسب، بل أيضاً تجنيد تنظيم «داعش» لآلاف المقاتلين الأجانب، وانتشاره من ليبيا إلى أفغانستان، والخطر الذي بات يطرحه بالنسبة للولايات المتحدة والذي يثير قلق مسؤولي أجهزة الاستخبارات الأميركية، وأمواج اللاجئين الذين يزعزعون استقرار أوروبا. بيد أنه حتى لو نجحت سياسة أوباما من الناحية الواقعية الصرفة، فإن شيئاً كان سيكون مفقوداً في تخدير الرأي العام الأميركي. صحيح أن غضب الأميركيين على مر العقود كان متفاوتاً، وفي بعض الأحيان منافقاً، وفي أحيان أخرى تحرّكه المصلحة الذاتية. غير أن ثمة كذلك شيئاً جديراً بالإعجاب في تصميم أميركا على المساعدة، لذلك نسأل، حتى وإن لم نستطع إنقاذ الجميع في الكونغو: ألا يمكننا إنقاذ بعض الناس في سوريا؟ للأسف، نجاح أوباما في قلب هذا السؤال رأساً على عقب شيء لا يستحق أن نفتخر به. فريد حياة محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»