في لحظة لها دلالتها الخاصة أوروبياً وبريطانياً فيما يتعلق بالموقف من الآخر المختلف ثقافياً، وفي أفق تلبده موجات الهجرة البشرية القادمة من الشرق الأوسط، تعهد الزعيم الجديد لـ«حزب العمال» البريطاني، جيريمي كوربين، بالنضال من أجل بريطانيا أكثر تسامحاً وتقبلًا للتنوع الثقافي، وبمعالجة «الفوارق الاجتماعية الفاضحة»، قائلا إن انتخابه -أول أمس السبت- على رأس الحزب، إنما يمثل تعبيراً من جانب الناخبين عن «رفضهم للظلم والفقر غير المبررين». وينتمي كوربين للجناح اليساري في «حزب العمال»، وهو نائب في مجلس العموم منذ 32 عاماً، وقد عارض سياسة «حزب العمال الجديد» تحت قيادة بلير، واعتبره المراقبون للانتخابات الداخلية في الحزب، وحتى الأيام القليلة الماضية، مرشحاً هامشياً بلا حظوظ، لكنه فاجأ الجميع بتفوقه على منافسيه من قادة الحزب. ولد جيريمي كوربين برنارد عام 1949 في ويلتشير، لوالده الذي كان مهندساً ووالدته التي كانت أستاذة لمادة الرياضيات، وتلقى تعليمه في مدرسة «آدمز جرامارز» في شروبشاير. وبعد إنهائه مرحلة الدراسة الثانوية سافر إلى جامايكا حيث عمل لمصلحة منظمة خيرية للتنمية، وبعد سنتين عاد إلى بريطانيا ونشط في النقابات العمالية، ولم يلبث أن انتخب عضواً في المجلس البلدي لمنطقة إدارية لندنية تدعى «هارينجي»، ثم كانت خطوته الثانية في عالم السياسة دخوله مجلس العموم كنائب برلماني عن دائرة إزلينغتون الشمالية عام 1983، وهو المقعد الذي احتفظ به منذ ذلك الحين. في صفحته على الموقع الإلكتروني لمجلس العموم، كتب كوربين معرفاً باهتماماته، قائلا إنها تشمل سكان دائرته إزلينغتون، ووقف الحرب، والتحرر، وتحقيق الرفاه، والخدمة الصحية الوطنية، والاشتراكية وحقوق الإنسان (بما في ذلك مكافحة العنصرية)، والأممية، ومناهضة الإمبريالية، وسلامة النقل والبيئة. وكوربين ناشط متحمس من أجل السلام، يكتب عموداً أسبوعياً في الصحيفة الاشتركية «ثمورنينج ستار»، منذ الثمانينات، يكرسه لطرح مواقفه حول العدالة الاجتماعية ومناهضة الحرب، وهو أحد الداعين لتفكيك نظام «ترايندت» للغواصات النووية البريطانية، وكان عضواً في «الحملة من أجل نزع السلاح النووي»، قبل أن يصبح الناطق باسمها، وهي منظمة تسعى منذ تأسيسها عام 1958 إلى مناهضة الأسلحة النووية، وقال مؤخراً إن الأسلحة النووية غير مجدية عملياً، وإن حيازة بريطانيا لها تشجع دولا أخرى على السعي لامتلاك ترسانة مشابهة، مما يقوض الجهود الرامية لنزع الأسلحة النووية عالمياً. وكان كوربين عضواً نشطاً في عدة حملات مناهضة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وتعرض للاعتقال عام 1984 أمام سفارة جنوب إفريقيا في لندن لانتهاكه قانوناً بحظر التظاهر هناك، كما يعد مؤيداً للقضية الفلسطينية، وهو عضو في حملة التضامن مع فلسطين. وكان عضواً في منظمة العفو الدولية، حيث قاد في عام 1999 جهوداً قوية، لكن دون جدوى، للمطالبة بتنظيم محاكمة دولية في بريطانيا للدكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقد عارض الغزو الأنجلوأميركي للعراق عام 2003، وشارك في اللجنة التوجيهية للتحالف المناهض للغزو «أوقفوا الحرب». ووعد قبيل انتخابه زعيماً لـ«العمال» بتقديم اعتذار عن تدخل البريطانيين في العراق، وقال إن الوقت حان لكي يقدم الحزب اعتذاره للشعب البريطاني عن جره إلى الحرب استناداً على خدعة، وللشعب العراقي عن العذابات التي ساهمت بريطانيا في إلحاقها به. وتعرض كوربين للانتقاد في الثمانينات بسبب مواقفه القريبة من «الشين فين» (الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي)، كما شارك في حملات للدفاع عن حقوق الحيوان، وأخرى لنشر الوعي بخطر الاحتباس الحراري، وكان المتحدث باسم حملة للدفاع عن سكان أرخبيل تشاغوس الواقع في المحيط الهندي، والذي يدار من قبل الحكومة البريطانية وتطالب به موريشيوس. وفيما يتعلق بموجة الهجرة القادمة من الشرق الأوسط باتجاه أوروبا حالياً، يعارض كوربين الدعوات المطالبة بتشديد المراقبة على الحدود، ويؤيد استقبال اللاجئين، ويرى أن المهاجرين قدموا إسهامات هائلة لبريطانيا. ويعارض كوربين سياسات «الناتو»، وقد ساهم في الحملة ضد الشراكة في التجارة والاستثمار عبر الأطلسي (TAFTA). وفي الكثير من مواقفه، مثّل كوربين توجهاً معاكساً للتيار العام السائد داخل حزب العمال، لاسيما منذ عهد بلير، لكنه كان يكسب مؤيدين بازدياد، على ما أوضحت نتائج انتخابات السبت الماضي، فخلال وجود حكومة الحزب بقيادة بلير (1997-2007)، أدان كوربين ما قال إنها انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات العامة، لاسيما العراقيل في وجه طالبي اللجوء السياسي، وفي غضون عشر سنوات فقط (2005 2015)، صوّت كوربين ضد تعليمات حزبه 148 مرة، مما جعله النائب الاشتراكي الأكثر تمرداً، لكن عندما اندلعت فضيحة النفقات المالية لأعضاء مجلس العموم في عام 2009، كان كوربين أحد أقل الأعضاء إنفاقاً من المال العام. وحين تقدم كوربين لقيادة «العمال»، قبل عدة أشهر، تعهد بمكافحة سياسة التقشف التي تنتهجها حكومة كاميرون الائتلافية القائمة عقب انتخابات 2010، وهي سياسة وضعها وطبقها وزير المالية جورج أوسبورن، وقد قلصت الميزانية العامة بحوالي 6.2 مليار جنيه إسترليني، مما انعكس على القطاعات الخدمية بصفة خاصة. كما وعد بالخلاص من ميراث «حزب العمال الجديد» لبلير، متمثلا في الليبرالية الاقتصادية الجامحة وتراجع الدور الاجتماعي والاقتصادي للدولة. وبدعم من النقابات الرئيسية استطاع أن يحقق المفاجأة بفوزه على وزيرين سابقين هما «إيفيت كوبر» و«آندي برنام»، كما هزم «ليز كندال» التي تعد الممثل الرسمي لسياسات بلير، وذلك بنيله 251417 صوتاً، أي ما نسبته 59.5? من الأصوات في الجولة الأولى من الاقتراع. وبذلك يأخذ «العمال» منعطفاً جديداً في تاريخه الذي يعود إلى مطلع القرن الماضي حين ظهر كحزب ينتمي إلى يسار الوسط، يدعو إلى إعادة توزيع الثروة من خلال نظام متطور للضرائب المباشرة، وذلك لمصلحة العمال وعائلاتهم، لكن كما انتزعت إصلاحات بلير الطابع الاشتراكي واليساري للحزب وأعادته إلى السلطة، بعد 18 عاماً من التيه في معارضة حكومة المحافظين، ينتظر أن تعيد حقبة كوربين الصبغة اليسارية والاشتراكية لـ«العمال»، لكن دون توفر ضمانات كافية بإعادته إلى دفة الحكم، فقد سبق كوربين ثلاثةٌ وعشرون زعيماً للحزب، لكن ستة منهم فقط ترأسوا الحكومة، وحتى سلفه المباشر، «إد ميلباند» الذي ترأس الحزب لخمس سنوات، أنهى مأموريته دون أن يستطيع إعادة الحزب إلى كراسي السلطة، فهل يواصل العماليون سنوات التيه مع زعيم آخر، حتى وإن كان متمرداً وشديد اليسارية؟! محمد ولد المنى