هل توجد حدود لحرية الإعلام؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عليه، إذ لكل منطقة جغرافية من العالم خصائصها، أي معتقداتها وآمالها ومصالحها وارتباطاتها الاجتماعية واتجاهاتها السياسية والمزاج العام السائد فيها. ومع ظهور القنوات التليفزيونية الفضائية في سماء العرب مطلع التسعينات، والصحف المهاجرة قسراً وطواعية إلى بعض العواصم الأوروبية، ثم وسائل التواصل الاجتماعي.. اعتقد البعض أن ذلك سوف يزيد من مساحة الحرية الإعلامية، ويحقق هامشاً أكبر لحرية التعبير، لكن هذا الاعتقاد جُوبه بإجراءات تحكم قبضة السلطة على الصحافة والإعلام عموماً. وكما أنني لا أعتبر كل عمل إعلامي «حر» يمثل عدواناً ضد أمن الدول والمجتمعات، فإنني أرفض الفوضى الإعلامية التي نشاهدها الآن في بعض بلدان «الربيع العربي»، خاصة حين يكون المذيع حاكماً وقاضياً وجلاداً في آنٍ معاً! هذه ليست حرية، لأنها تنال من أفراد وجهات دونما قرائن أو إثباتات. والمفارقة أن التطور التكنولوجي قلّص هو الآخر مساحة الحرية بدلاً من توسيعها، لأن التشريعات جعلت الكثيرين يترددون في الكشف عن آرائهم الحقيقية. نعم، لقد تراجعت الحريات، ولنا في كتاب المقالات الشاهد الأوضح! فقد أصبح الكاتب يفكر ألف مرة قبل أن يتناول موضوعاً مُتداولا في وسائل التواصل الاجتماعي، لأنه من السهولة بمكان أن يقع تحت طائلة «القذف» أو «تشويه السمعة» أو «الإضرار بالمصلحة العامة».. وغيرها من «التهم الجاهزة». لذا، فمن الأمان للكاتب أن يتناول «سبَّ إسرائيل» أو الحديث عن «انتحار الحيتان» الطوعي، بدلاً من الدخول في المحظور والمقامرة بقوت عياله، خصوصاً مع توفر التفسيرات الخاطئة، والتي يُجيدها «دهاقنة» نظرية «المؤامرة» دائماً. الإشكالية أنه لا يوجد تحديد لمصطلح الحرية، فما يراهُ الكاتب حرية يراهُ المُراقب «النشط» إساءة وتحريضاً ومشاكسة، لأن تهمة التحريض تسكن عقل المراقب، ولا ينظر للجانب المملوء من الكأس، ناهيك عن المنجمين الذين يفسرون ما في عقل الكاتب وضميره! نعم، لقد تراجعت مساحة الحرية، وزادت مساحات الحذر والخوف، وأضحت السماء العربية مسرحاً لفوضى الفضائيات وسحرة التلاعب بالعقول، ولعلنا نرجع ذلك إلى عوامل منها: - الرقابة المطلقة، وتطويق الإعلام بنخبة من «حراس البوابة» الذين يتوجسون من أي اتجاه للنقد الإيجابي أو متابعة ما يجري في العالم المتحضر من اتجاهات لتعزيز حرية الإعلام، ويتكئ هذا البعض على الدين أحياناً، لكنه أساساً ينام على «سرير السياسة». - تجاوز القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بحرية التعبير، مع غياب جهات المحاسبة، مثل النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، لذا ينشأ الفرد في «حظيرة» التلقي حيث تملي عليه «أبواق» الدعاية دون اعتراض، حتى لو تجاوزت تلك الأبواق حدود الحقيقة وقيم البث والنشر. - أعمال العنف والاضطرابات في بعض أنحاء العالم العربي؛ فالاستقرار يؤدي إلى «الاسترخاء» السياسي والأمني، وبالتالي تقل «شهوة» التفسيرات الخاطئة والمراقبة الشديدة لما يذاع أو يبث. - حقن السياسة في الأداء الإعلامي بجرعة زائدة، ولنا في النماذج «الدعائية» التي لا تحترم عقل المتلقي الشاهد الأوضح.. لاسيما في ظل وجود بعض الهواة القادمين من مناطق بعيدة عن الإعلام ولا علاقة لهم بالمهنية. ويحلو لبعض المقامرين من «عبدة الدولار» في بعض القنوات العربية المحاربة بسيوف من خشب، ممن يستغلون تلك المنابر لإبراز أنفسهم كـ«أبطال وطنيين»، يحقنون الرأي السياسي الخاص في برامجهم، دونما رادع أو توجيه، في تجاهل واضح للمهنية الإعلامية. وهذا يضيف إلى حقن السياسة في الأداء الإعلامي. لذلك فقد أورد تقرير «فريدوم هاوس» الأخير أن الدول العربية لم تحقق تقدماً في الحريات الإعلامية عام 2014، وأن 32% من دول العالم لم تتمتع بحرية صحفية. وأخيراً، فإن المجاهرة بحرية التعبير، والصراخ الإعلامي، لا يمكن أن يكونا مؤشرين لصدقية وجود حرية إعلام. ----------------- *إعلامي وأكاديمي قطري