ليس بوسعنا أن نفهم وضع السلطة السياسية في مصر عقب انقضاء المرحلة الانتقالية إلا على ضوء الخطوات المنتظمة التي قطعتها الثورة المصرية منذ انطلاقها في 25 يناير، وكذلك في ضوء المعطيات والمؤشرات والنموذج الذي صنعته، إذ إن الشارع المصري رسم في فترة «التخمر الثوري» وما تبعها دورة كاملة لحضوره السياسي وتأثيره الكبير على مجريات الأمور، كطرف أول وأصيل في المعادلة، ليبرهن على أن «الناس هم الأساس»، وبالتالي يصبح الخيار الأصيل والسليم والآمن للسلطة الحاكمة هو تعزيز رضا الشعب عنها، سواء في قاعدته العريضة أو نخبته السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية. وعلى وجه العموم تواجه السلطة الحاكمة في مصر ثلاثة خيارات أساسية، على النحو التالي: الأول: الحفاظ على النظام الحاكم، فليس من قبيل التجني أن نقول إنه لم يحدث، إلى الآن، تغيير جوهري أو جذري وعميق في نظام حسني مبارك، فقد بقيت «المباركية» طريقة في تفكير وأسلوب عمل بعض أجهزة الدولة ومؤسساتها. وقد يرجع هذا بالأساس إلى أن من بعض مَن تسلموا الحكم عقب خلع مبارك لم يكن في حسبانهم أو في نيتهم الاستجابة لمطالب الثورة، فالمجلس العسكري الذي تسلم الحكم في 11 فبراير 2011، تعامل مع ما بدأ في 25 يناير بوصفه مجرد انتفاضة ضد التوريث! وكان همّه الأساسي هو الحفاظ على تماسك كيان الدولة الذي تعرض لهزة عنيفة، فضلاً عن افتقار أعضاء هذا المجلس إلى الخبرة الكافية لإدارة شؤون الحكم، وكذلك طبيعة الجيش كمؤسسة «أمنية بيروقراطية» تعتقد أن المجتمع يجب أن ينتظم على شاكلتها، ولذا لا تحبذ تعددية الآراء والمواقف واختلاف المشارب والأهواء. ولهذا حاول المجلس طيلة الوقت «تبريد الثورة» وتخفيض سقف مطالبها أو تفريغها من مضمونها تدريجياً. وجاء حكم جماعة «الإخوان المسلمين» من خلال مرسي، فلم يترجم هذه المطالب إلى واقع عملي، لأن «الإخوان» اعتبروا بانتهازية الثورة «فرصة»، فضلاً عن أنهم من المنشأ أو الأساس لم يكن لديهم أي بدائل حقيقية عما كان يجري قبل ثورة 25 يناير. وبعد أن أطيح حكم «الإخوان»، مرت مصر بمرحلة انتقالية أو تأسيسية جديدة، لتجد السلطة نفسها في مواجهة موجة أخرى من إرهاب الجماعات المتطرفة والتكفيرية التي تحالفت مع «الإخوان»، وتستفيد من إمكاناتهم المادية أو من المظلة السياسية التي يوفرونها تحت لافتة تسمى «الدفاع عن الشرعية» المزعومة! وتحت ذريعة ألا يعلو صوت فوق صوت «مكافحة الإرهاب» وجد آخرون مبرراً بأن الوقت لا يسمح بترف اسمه «إنجاح الثورة»، ولاسيما أن المعركة ضد «الإخوان» كانت لاسترداد الدولة التي أصبحت خلال عهدهم في خطر، ولا يزال هذا الخطر مستمراً، من وجهة النظر هذه، ليس على أيدي الإرهابيين فحسب، بل بفعل المؤامرات الخارجية أيضاً. الثاني: الانتصار للثورة، وهذا أكثر المسارات نجاعة في كسب الشرعية وتعزيز رضا الجماهير والحفاظ على تماسك الدولة وسد الطريق أمام إعادة الأمور إلى الوراء، سواء كان بعودة «المباركية» أو «الإخوانية». فثورة 25 يناير انطلقت لأن شروطها كانت متوافرة كاملة، وما زاد سخط الناس على المجلس العسكري ومن بعده «الإخوان المسلمون»، إلا لأنهما أهملا مطالب الثورة المستحقة، وغير القابلة للتأجيل، وراحا يعملان ما وسعهما من أجل أن تبقى الأمور على حالها. الثالث: طريق الإصلاح، ويعني عدم الاستجابة الفورية والسريعة لاستحقاقات الثورة، واتباع النهج الإصلاحي الذي يقوم على ترك الآليات والإجراءات التي يحددها الدستور من تداول سلطة، وتعددية سياسية، وتكافؤ فرص بين المتنافسين السياسيين، ونزاهة الانتخابات، ورقابة شعبية، وتقوية المؤسسات، وحضور المجتمع المدني، لتصحيح أخطاء الماضي تباعاً وتحقيق ما أراده الثوار، ولاسيما أن الفساد والاستبداد نجما عن ضعف المجتمع في مواجهة السلطة. ولكن هذا المسار كان متعثراً إلى حد بعيد، ولاسيما في ظل عدم احترام الدستور، وغياب أي إجراءات لمكافحة الفساد، وسن قوانين تضيق على الحريات العامة.