لا يدرك عديد من الباحثين العلميين والناشطين السياسيين أننا نعيش بعد 25 يناير وعلى الأخص بعد 30 يونيو عصراً سياسياً جديداً لا علاقة له بالنظام السياسي قبل 25 يناير الذي أسقطته ثورة الشعب. ولو شئنا أن نوصف بدقة هذا العصر السياسي الجديد لقلنا إننا نعيش في الواقع في مجتمع ما بعد الثورة. وهذا المجتمع قد قطع نهائياً مع دعاوى الإصلاح الديموقراطي التي كانت سائدة في العشر السنوات الأخيرة من حكم "مبارك" بتأثير ضغوط الخارج ومطالب الداخل. وذلك لسبب بسيط أن الثورة وليس الإصلاح أصبحت هي الشعار، والثورة -بحسب التعريف- تعني إعادة صياغة كاملة للنظام السياسي بمفرداته الأساسية. وأول هذه المفردات هي الدولة، وثاني هذه المفردات هي الأحزاب السياسية، وثالث هذه المفردات هي مؤسسات المجتمع المدني. ونحن نعرف من دراسات علم السياسة المقارن أن العلاقات بين هذه المفردات تختلف اختلافاً جوهرياً في النظم السياسية المختلفة وهي الشمولية والسلطوية والليبرالية. في النظم الشمولية لا وجود تقريباً لمؤسسات المجتمع المدني في ظل الهيمنة المطلقة للدولة، وفي النظم السلطوية هناك حرية نسبية لمؤسسات المجتمع المدني تحت الرقابة اللصيقة للدولة، وفي النظم الليبرالية هناك – نظرياً- حرية مطلقة لمؤسسات المجتمع المدني. ومعنى ذلك أنه بقيام 25 يناير، والتي بدأت بانتفاضة شبابية من أجل الحرية وحقوق الإنسان وانتهت بثورة شعبية شارك فيها ملايين المصريين، كان المفروض أن يتبعها التجدد المؤسسي الكامل لمفردات النظام السياسي الذي سقط، وهي الدولة والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. ولكن بعد فترة اضطراب عظمى في الممارسة السياسية بين 25 يناير و30 يونيو، لم يحدث فيها أي تجدد مؤسسي للنظام السياسي. غير أن التغيير الجذري ظهر في الواقع بعد 30 يونيو وخصوصاً بعد وضع الدستور الجديد وانتخاب "عبد الفتاح السيسي رئيساً للجمهورية. وسرعان – في العام الأول لحكمه- ما عادت ما أطلقنا عليها "الدولة التنموية"، والتي كان نموذجها البارز الدولة في ظل ثورة 23 يوليو 1952، والتي قادها الزعيم جمال عبد الناصر. وهذه الدولة هي التي رسمت الخريطة التنموية للبلاد، ليس ذلك فقط بل قامت هيئاتها – وخصوصاً بعد التأميم والتمصير في عام 1956- بالتنمية بوساطة شركات القطاع العام، بالإضافة إلى قوانين الإصلاح الزراعي التي غيرت الوضع الطبقي للفلاحين، والإصلاحات في قانون العمل، والتي نهضت بأوضاع العمال بصورة غير مسبوقة. وقد رصدنا في مقالنا الذي نشر في الأهرام بتاريخ 27 أغسطس 2015 بعنوان "عودة الدولة التنموية" أهم ملمح من ملامح التجديد الجذري في وظيفة الدولة، وهو قيامها مباشرة بالتنمية، وليس بالضرورة عن طريق رجال الأعمال، الذين فتح لهم الرئيس "السادات" الباب ببداية "عصر الانفتاح"، وترك لهم "مبارك" موارد الدولة وأراضيها كاملة لينهبوها باسم الاستثمار، مع أنه كان في الأغلب الأعم شبكة فساد كبرى شارك في جرائمها أهل السلطة ورجال الأعمال الذين كونوا ثروات خرافية على حساب طبقات الشعب الوسطى والدنيا المكافحة. وهكذا عادت في بداية عهد "السيسي" الدولة التنموية لتلعب الدور الأساسي في التنمية أقوى من عصر "عبد الناصر". ولأول مرة في تاريخ رؤساء الجمهورية يقود "السيسي" مفاوضات التنمية والاستثمار مع قادة الدول الكبرى ومع كبار المديرين بها، إعلاناً جهيراً على أن الدولة الجديدة بعد 30 يونيو مهمتها الأساسية هي التنمية، والقضاء على التخلف في كل الميادين والتي تراكمت مشكلاته منذ عشرات السنين. ومعنى ذلك أن الدولة وهي الطرف الأساسي في أي نظام سياسي قد تجددت بعد ثورة 25 يناير وأصبحت مهمة التنمية القومية هي رسالتها الأساسية، وليس في ذلك أي استبعاد لرجال الأعمال مصريين أو عرب أو أجانب، ولكن بشروط الدولة وتحت رقابتها ومن دون الفساد الذي سبق أن نهب الثروة القومية. ولكن يثور السؤال البالغ الأهمية: هل تجددت الأحزاب السياسية بعد الثورة؟ وهل تجددت مؤسسات المجتمع المدني؟ والإجابة القاطعة لا للأسف الشديد. لأن الأحزاب القديمة أو الجديدة تعيش في "غيبوبة سياسية"، ولا يدرك قادتها التغيرات الكبرى التي حدثت في الممارسة السياسية في دول العالم المختلفة. والدليل على ذلك أن هناك أزمة عالمية كبرى في مجال الممارسة الديموقراطية وتتراكم سلبياتها منذ سنوات بعيدة.