تأسست المرجعية الدينية الشيعية ببغداد، ويُعد الشيخ المفيد (ت 413هـ)، عربي من منطقة «عكبرى»، القريبة من بغداد، أول مرجع أو نائب عن الإمام الغائب، حسب الاعتقاد الاثني عشري، وهو المؤسس. حصل ذلك بعد انتهاء فترة النواب الأربعة، وقد تولوا زمن الغيبة الصغرى (260-329هـ): عثمان العمري الأسدي (ت 280هـ)، ونجله محمد (ت 305هـ)، وحسين النوبختي (ت 326هـ)، وعلي السيمري (ت 329هـ). وبوفاة الأخير بدأ زمن الغيبة الكبرى، وعهد المراجع واجتهاد الرأي، وانتهى العمل بالسياسة المباشرة، فهي من شأن الإمام الغائب (انظر: الطُّوسي، كتاب الغيبة). بعد المفيد والمرتضى (ت 436هـ) انتقلت المرجعية إلى النجف وأعاد تأسيسها (448هـ) محمد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ)، المعروف بشيخ الطائفة، بعد النزاع الطائفي في العهد السلجوقي (بدأ 447هـ). منذ ذلك الوقت صارت النجف جامعة للفقه الإمامي ومقراً للمرجعية، وكم تأسست حوزات دينية خارجها، لكن الطامح للاجتهاد ظل يشرئب إليها، وكأنه لا اعتراف به من دون الدراسة فيها، وصارت من أكثر المدن حفاظاً على العربية وآدابها، لأن تعليمها أساس الدراسة. لذلك قَدم آية الله علي السيستاني النجف (1951)، ولم يغادرها إلا نادراً: في شبابه إلى إيران لستة شهور، ولفريضة الحج (مرتين)، وأخرى للعلاج بلندن، عدا ذلك ظل قابعاً بها لأربعة وستين عاماً، حتى يومنا هذا، بل والعديد مِن المراجع وصلوها صبياناً ودفنوا في تربتها بعد مماتهم، تصبح وطناً، ومنها يكون الاهتمام بالشأن العراقي عند الضرورة، مثلما حدث بعد 9 أبريل 2003. يجري كلام كثير عما يميز النجف عن إيران، ولا نقول «قُم»، لأن فيها من العلماء مَن لا ينسجم مع «ولاية الفقيه»، أي الدولة الدينية. ليس لنا عند الحديث عن توجه مرجعية النجف مما يُقال في الإعلام، أو ما يُكتب بلا علم ودراية، على أنها تطرح ولاية الفقيه أو أنها مع دولة دينية، بل نستقي الخبر من الفتاوى والتصريحات الصادرة من الدار المتواضعة في زقاق من أزقة النجف، وهي ما زالت مؤجرة وليست ملكاً (الصَّغير، أساطين المرجعية العليا). يستطيع المهتم أن يتابع تلك الفتاوى والتصريحات وخطب الوكلاء من الموقع الرسمي للمرجعية، وقد صدرت جميعها (2003-2013) في «النصوص الصادرة عن السيستاني في المسألة العراقية»، أعده ممثلها الخفاف. قدمت لنا تلك النصوص أن المرجعية مع دولة مدنية، وليست دينية مثلما يصبو الإسلام السياسي الحاكم بالعراق حالياً، وأن توجهها مخالف لفكرة الولي الفقيه، مثلما تتخذه إيران نظرية للحكم، وهنا تأتي خطورة أن يتولى أحد المراجع القريبين من حزب «الدعوة الإسلامية»، مثل الشاهرودي والحائري، فهما يتبعان ولاية الفقيه الإيرانية، وهذا ما تسعى إليه الأحزاب الدينية الشيعية بالعراق في حالة فراغ المرجعية، وقد سمى أحد الخطباء الحليين هذا السعي بـ«استيراد المراجع». سنأتي بشواهد من تلك النصوص، وهي كثيرة، فالكتاب ناف على خمسمائة صفحة. وكانت أول فتوى قبل إعلان سقوط بغداد بأسبوع محرمةً الاستيلاء على ممتلكات الدولة، وأخرى حرمت الانتقام من رجال النظام السابق. إلا أن ما نركز عليه هو ما يُجيب على السؤال: هل المرجعية مع الدولة الدينية، مثلما يسعى إليها ضمناً الإسلام السياسي، أم مع دولة مدنية تؤمن بالتعددية وبولاية العراقيين على أنفسهم؟ جاء بقلم السيستاني أو مكتبه: «شكل نظام الحكم في العراق يحدده الشعب العراقي، وآلية ذلك أن تجرى انتخابات عامة، لكي يختار كل عراقي من يمثله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، الذي يقترحه المجلس على الشعب للتصويت عليه، والمرجعية لا تمارس دوراً في السلطة والحكم». وعن دور رجال الدين: «لا شأن لهم بالأمور الإدارية ونحوها». وجاء اسم ولاية الفقيه أكثر من مرة بالاسم: «أما تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة فليس وارداً مطلقاً»، وذلك رداً على سؤال: «هل تحبون أن تكون دولة العراق مثل دولة إيران الإسلامية؟». وعندما سُئل عن دورها السياسي، جاء الجواب من مكتبه مكرراً: «سماحة السيد لا يطلب موقعاً في الحكم والسلطة، ويرى ضرورة ابتعاد علماء الدين عن مواقع المسؤوليات الإدارية والتنفيذية». ذلك هو المنطلق الذي أيدت به مرجعية النجف التظاهرات ببغداد والمحافظات، وشعارها دولة مدنية، على خلاف إرادة الإسلام السياسي ومرجعياته. بطبيعة الحال، لا يُطلب من مرجع ديني التصريح بمنطق المدنيين، فعندما سئل عن تأييد الديمقراطية، رد مؤيداً التعددية والأغلبية السياسية لا الطائفية، وقد لا نجد مفردة الدولة المدنية بين النصوص، لكن الحديث ضد الدولة الديينة لا يعني سوى المدنية. ----------------- *كاتب عراقي