الكُتاب في الصحافة العربية حائرون في تفسير لا مبالاة العالم العربي بما يحدث في سوريا، فكل أشكال الدمار باتت مألوفة وكل أنواع القتل باتت مقبولة وكل أنماط انتهاك حقوق الإنسان، المرأة والرجل والطفل والشيخ وحتى الحيوانات الأليفة بل وتدمير الآثار.. صارت تمر بالقارئ والمستمع والمشاهد.. كأبسط الأمور! «لا يمكن تفسير اللامبالاة والبلادة في التعامل مع الأهوال التي يواجهها السوريون، بالأخص منذ ثلاثة أعوام، والمتمثلة في المقتلة المروعة بالقصف بالبراميل المتفجرة والقنابل الفراغية، مع تدمير العمران وتشريد الملايين»، يلاحظ ماجد كيالي «إلا بسيادة أنماط من التفكير والسلوك والوجدان، تنم عن موات أخلاقي وتحلل قيمي في مجتمعاتنا. وبديهي أن ذلك ناجم عن تعود العيش على انتهاك الحريات، والتخفف من الإحساس بامتهان الكرامات، وتقبل انتهاك الحق في الحياة». كيف وجد السوريون والعرب أنفسهم في هذا الموات الأخلاقي؟ الأنظمة الاستبدادية والشمولية، يجيب "كيالي"، هي التي أسهمت في وصولنا إلى هذه الحال من التدهور. لماذا لا نغضب من جرائم بعض العرب غضبنا من جرائم إسرائيل. يجيب الكاتب الفلسطيني نفسه: «إن بعض من تثور ثائرتهم، بالمعنى النظري فقط، تجاه أي جريمة منكرة ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين، أو غيرهم، لايبدون أي مشاعر إزاء قتل السوريين، كأن المشكلة لا تكمن في القتل وإنما في هوية القاتل، أو كأن حياة الفرد ليست قيمة عليا، وإنما ادعاءات الأيديولوجيا والسياسة، في دلالة على انحطاط أخلاقي، وعور في نمط التفكير. ولعله يجدر بنا التذكير هنا أن إسرائيل، الاستعمارية والعنصرية والمصطنعة والوحشية، عندما تقتل وتجرم في حق الفلسطينيين، أو غيرهم، لا تُنزل القتل بشعبها، وإنما بمن تعتبرهم أعداءها، فتستخدم القتل وتدمير البيوت والاعتقال والحصار، كوسيلة للإخضاع، في المقابل فالنظام السوري ينزل القتل بشعبه أولاً، وثانياً هو يقتل ويدمر من أجل القتل والتدمير والترويع فقط، أي من دون فتح أي أفق سياسي». سوريا ما بعد نكسة يونيو 1967 هي سوريا التي بناها الرئيس حافظ الأسد ابتداء من عام 1970، عندما قام بـ «انقلاب أبيض» على "صلاح جديد"، شريكه في انقلاب 1966 على الرئيس أمين الحافظ. حركة حافظ الأسد الثانية هذه عام 1970، عرفت بـ «الحركة التصحيحية»، تسلم إثرها مجلس الوزراء، ثم انتخب رئيساً للجمهورية، و«شهدت سوريا في عهده تطوراً كبيراً في مجالات مختلفة. ازدهرت سوريا اقتصادياً في السبعينيات من حكمه، ثم تعرضت لحصار اقتصادي - سياسي من أميركا والغرب». «معجم الشرق الأوسط» نفسه، يقتبس ما جاء في إحدى خطبه حيث أشاد بالحركة التصحيحية التي استهدفت إخراج سوريا من عزلتها العربية، وإخراج الحزب من عزلته عن قواعده. فهي حركة، كما وصفها الرئيس الأسد، «أعادة إلى حركة 23 شباط 1966 صفاءها وثوريتها، وأعادت إلى الثورة حيويتها واندفاعها، وأعادت الحزب إلى جماهيره». أشاد الكثيرون بحكمة حافظ الأسد وبُعد نظره وتوازنه السياسي باعتباره رجل دولة وباني سوريا الحديثة وغير ذلك، غير أن الأديب والكاتب السوري «عمر قدّور» له رأي آخر! يقول: «ثمة كذبة قديمة لنظام الأسد، روّجها صحافيون وباحثون أجانب وعرب، فضلاً عن النظام، مفادها أن الأسد الأب نقل البلد من «الشرعية الثورية»، إلى «الشرعية الدستورية»، خلافاً لرفاقه المتشددين الذين بدأت تستهويهم الماركسية والماوية. الوقائع المبكرة تفنّد هذا الزّعم، فحافظ الأسد الذي لا تستهويه المفاهيم الثورية، لم يقتنع يوماً بمشروع الدولة، وكان لافتاً في أول حكومة تُشكل بعد تنصيبه رئيساً إسناد حقيبة الدفاع لشخص لم يؤد الخدمة العسكرية، وكان قبل الانقلاب يرأس اتحاد الطلبة. ذلك في الوقت الذي بدأ نجم أخيه رفعت بالصعود السريع، رفعت الذي تسلّم قيادة الفرقة 569 وهو في سن الثلاثين، وأشرف أيضاً على «سرايا الدفاع» التي ظلّت تُعرف باسمه حتى حلّها عام 1984». لم تهدف الحركة إلى تصحيح الأوضاع السورية حقاً إلا في أضيق الحدود، فيما انفتح المجال للعسكرة وتدعيم الميليشيات، كما يشرح الكاتب قدّور: «لقد صار واضحاً وقتها، أن البلد يخضع عملياً لسيطرة ميليشيات عسكرية وأمنية، ولاؤها المطلق للنظام، على قاعدة كونها إقطاعيات متآزرة ومتنافسة ضمن ما ترسمه العائلة المالكة. بالطبع للميليشيات العسكرية والأمنية سيطرة على الحياة العامة برمتها، ولقادتها باع مماثلة في تحقيق الثروات عبر طرق الفساد المعروفة وعبر فرض أتاوات على نشاطات اقتصادية تضع في مجال سيطرتهم.. وبروز ظاهرتي مخلوف وحمشو، كواجهتين اقتصاديتين، والهيمنة من خلال مئات الشركات على النشاطات الاقتصادية ذات المردود المرتفع أو السريع». إن سوريا اليوم أرضاً وشعباً ليست مجرد دولة قيد التمزق والتفتت، بل هي كذلك قطعة من العذاب المتواصل والإنسانية المنتهكة على كل صعيد. لكنه للأسف، عذاب يحل في زمن تبلّدت فيه المشاعر وتكالبت الكوارث والأحزان. كاتب ومفكر- الكويت