هناك نماذج عديدة لأفراد من الجنسين التحقوا بتنظيم «داعش» في العراق وسوريا من خارج البيئة العربية، وهم الذين جاؤوا من الغرب ومن دول أوروبا تحديداً؛ ذلك الغرب الذي صار في نظر أصحاب هذه الهجرة العكسية كافراً، بعد أن عاشوا فيه واستمتعوا بامتيازات قوانينه وانفتاح مجتمعه، وبعضهم استفاد أولادهم من معونات الدول الأوروبية التي تشمل السكن والغذاء والتعليم وصولا إلى الترفيه. هذا النوع من الدواعش يمثل ظاهرة غريبة ومحيرة للمهتمين بتأمل ظاهرة «داعش». وبعيداً عن الأرقام والإحصاءات المتعلقة بنسبة الملتحقين بـ«داعش»، سواء من الغربيين أو من ذوي الأصول العربية الذين عاشوا طفولتهم أو أغلب حياتهم في الغرب، تبقى الظاهرة بحاجة لدراسات معمقة تتعامل مع حقائق وشواهد يمكن البناء عليها لفهم ما يحدث. وإذا كانت الشخصية الداعشية تتميز بالانفصام مع المجتمع وتأجيج حالة القطيعة معه، فإن الشخصية الداعشية القادمة من أوروبا يكون انفصامها مضاعفاً أو مزدوجاً! فهذا الصنف بحاجة لممارسة قطيعة مع بيئته الأصلية المتناقضة بشكل أكبر مع بيئة «داعش»، فكيف نتخيل بريطانياً أو ألمانياً يتخلى عن نمط حياته الأوروبية وينتقل لنمط حياة «داعش»! تتناول وسائل الإعلام ظاهرة العناصر الداعشية القادمة من الغرب، بخفة وظرافة تكاد تندرج في باب الغرائب، دون العمل على إثارة المزيد من التساؤلات حول ما يجري بهذا الشأن. وإذا ما اعتبرنا من يلتحقون بـ«داعش» من العرب المقيمين أو المولودين في أوروبا أشخاصاً فشلوا في الاندماج مع مجتمع إقامتهم، فماذا عن الأوروبي أو الغربي الذي يلتحق بهذا التنظيم ليعيش حياة جديدة في بيئة «داعش»؟ هل يمكن القول إن هؤلاء الأوروبيين عندما تعرفوا على الإسلام واعتقنوه تعرفوا عليه عبر أشخاص أو جماعات تتبنى الوجه المتطرف للإسلام؟ هذا هو الاحتمال الأرجح في ما يخص الأوروبي المنتمي لـ«داعش». أما النماذج العربية الداعشية الوافدة من أوروبا فقد سبق لوسائل الإعلام أن تناولت منها المصري «رضا صيام» الذي كان يعيش في ألمانيا، وكان يستفيد مع أولاده من معونات الحكومة الألمانية، وفجأة غادر مع عائلته إلى مصر فترة حكم «الإخوان»، والتحق بـ«داعش» وظهر في شريط مصور يتحدث بوصفه وزير تعليم «داعش»! وحالياً نتابع اللاجئين السوريين إلى أوروبا من الذين شردهم «داعش» وحروبه، ورغم أعدادهم الكبيرة يلقون معاملة إنسانية راقية، في الوقت الذي يعتبر فيه داعش الغرب كافراً، وهو الذي يستوعب ضحاياه المشردين! وعند تحليل الظاهرة الداعشية، يتضح أنها تمثل الطور الإرهابي المتطرف الأحدث زمنياً والأكثر بشاعة وإجراماً، قياساً بما قبلها من أطوار وجماعات إرهابية، عاثت فساداً وقتلاً واختطافاً للدين بتصويره أداةً للعنف وليس للسمو بروح الإنسان وتهذيبها، والتعايش مع الحضارات وابتكار ما يفيد الأوطان والبشرية عامةً. قبل ظهور «داعش» كان الصدى الإعلامي والتحركات الإرهابية من نصيب «القاعدة»، بتفرعاتها وأماكن وجودها المختلفة، والتي يبدو الآن أن الكثير من أذرعها قد أعلن تبعيته لـ«داعش» وحلمها بالخلافة التي قامت على تقديم استعراضات إجرامية مرعبة ومؤذية لصورة الإسلام في المخيلة العالمية. ومعلوم أن مرحلة تكديس الجهاديين وتجميعهم خلال الثمانينيات في أفغانستان بذريعة محاربة الجيش السوفييتي (الشيوعي) كانت نقطة البداية لتدشين مثل هذه التوجهات العنفية التي تفاقمت منذ أواخر القرن الماضي، ولا أحد يمكنه التنبؤ بالمآل الذي سيفضي إليه تغول مثل هذه الجماعات الخطرة. ونعلم أيضاً الدور الذي لعبته الحرب الباردة بين السوفييت والأميركان لاستثمار المجموعات الجهادية التي تقاطرت على أفغانستان، ثم انتجت ظاهرة الأفغان العرب. كما لا ينبغي تجاهل تيارات الإسلام السياسي الحركي، وعلى رأسها تنظيم «الإخوان المسلمين» باعتباره الرافد الأول للعناصر المتشددة من جهة، ومن جهة أخرى لأن «الإخوان» بأدبياتهم وأنشطتهم يتصدرون هم الجناح السياسي لكل الجماعات المتطرفة، بدليل ما حدث في مصر من تحالف مكشوف بين التيارات الجهادية والحركية عقب إخراج «الإخوان» وحلفائهم من الحكم تحت ضغط الشارع المصري. -------------- *كاتب إماراتي