خطابات زعماء الأرجنتين وبوليفيا وفنزويلا وبلدان أخرى من أميركا الجنوبية في أعقاب التباطؤ الاقتصادي الذي أصاب الصين توحي بأنهم يعيشون على كوكب آخر غير الأرض، إذ لا يتردد هؤلاء الزعماء في التفاخر بالموارد الطبيعية والمواد الأولية الوفيرة التي تزخر بها بلدانهم، كما لو كانت لذلك أي أهمية في عالم اقتصادات غوغل وآبل وأوبر. فخلال السنوات الأخيرة، عندما استفادت بلدان أميركا الجنوبية من ارتفاع قياسي في أسعار السلع العالمية بفضل ارتفاع واردات الصين من النفط وحبوب الصويا وغيرها من المواد الخام، شهدت المنطقة نوعاً من الطفرة الاقتصادية، فراح زعماؤها ينفقون الأموال على برامج شعبوية غافلين عن حقيقة أن العالم أخذ ينتقل بسرعة كبيرة نحو اقتصاد المعرفة. فأنفقوا أموالاً طائلة على البرامج والإعانات الاجتماعية وأوهموا شعوبهم بأنهم وجدوا حلولاً سحرية لتقليص معدلات الفقر. وبالتوازي مع ذلك، أهملوا الاستثمار في النهوض بجودة التعليم والعلوم والتكنولوجيا والابتكار. ولكن زمن الطفرة ولّى الآن، وباتت أميركا اللاتينية في مواجهة عاصفة مثالية: تباطؤ اقتصادي في الصين، وانخفاض أسعار السلع العالمية، وهروب المستثمرين الدوليين إلى بلدان أكثر أمناً، وإمكانية رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لمعدلات الفائدة، ما من شأنه أن يزيد من صعوبة حصول بلدان المنطقة على قروض أو تسديدها لديونها الخارجية. والأدهى من ذلك أن العديد من بلدان أميركا الجنوبية لم تعد تجد ما تبيعه غير المواد الخام منخفضة الأسعار. فقد عاشت هذه البلدان فترة الطفرة حين كانت أسعار السلع مرتفعة في الأسواق الدولية ولم تتحسّب لليوم الذي ستنخفض فيه الأسعار من جديد، حيث لم تعمل شيئاً لتزيد من تنافسيتها في تصدير السلع المصنعة أو عالية التكنولوجيا. فإنفاق المنطقة على البحث والتطوير في المتوسط يناهز 0,5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة مع 4 في المئة في فنلندا. وبلدان أميركا الجنوبية تحتل مراتب متأخرة في اختبارات «بيسا» الدولية. كما أن هذه البلدان لا تنتج سوى حوالي 5 في المئة من براءات الاختراع الدولية التي تسجلها كوريا الجنوبية، وفق المكتب الأميركي لبراءات الاختراع والعلامات التجارية. وعلاوة على ذلك، تشير الأرقام الجديدة لللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية والكاريبي التابعة للأمم المتحدة إلى أن صادرات أميركا اللاتينية من السلع المصنعة انخفضت من 72,3 في المئة من إجمالي صادرات المنطقة في 2000 إلى 58,6 في المئة في 2004. وإذا استثنينا المكسيك -التي تعتبر محرك الصادرات الصناعية في المنطقة- فإن حجم تراجع صادرات السلع المصنعة لأميركا اللاتينية يبدو أكبر من ذلك بكثير، وفق علماء الاقتصاد. صحيفة «إيل فينانسيرو» المكسيكية نشرت في الثالث عشر من أغسطس المنصرم، نقلًا عن دراسة أنجزتها مؤسسة «جاي بي مورجن» وبعض البنوك المركزية، دراسة تدق ناقوس الخطر تُظهر نماذج للاعتماد الكبير لبلدان أميركا الجنوبية على السلع. ولنتأمل في هذه الأرقام المعبرة التي تعود إلى ديسمبر 2014، وفق الصحيفة: - ففنزويلا تعتمد على الموارد الطبيعية الأولية في 98 في المئة من إجمالي صادراتها، حيث لا ينتج هذا البلد شيئاً تقريباً سوى النفط والحديد والألمنيوم. - الإكوادور تعتمد على مثل هذه السلع في 86 في المئة من إجمالي صادراتها، ذلك أن معظم ما يبيعه هذا البلد إلى الخارج يقتصر على النفط والموز والزهور. - كولومبيا تعتمد أيضاً على مثل هذه السلع في 79 في المئة من إجمالي صادراتها، إذ تتألف معظم صادراتها من النفط والفحم والبن والذهب والزهور. - بوليفيا تعتمد على هذه السلع في 72 في المئة من إجمالي صادراتها، وتتمثل معظم صادراتها إلى الخارج في النفط والفضة والزنك. وخلاصة القول إنه بدلاً من الاستثمار في المستقبل، أهدرت معظم بلدان أميركا الجنوبية مواردها خلال العقد الماضي في البرامج والإعانات الشعبوية، ما جعلها غير مستعدة لمواجهة أي عواصف اقتصادية مقبلة. ولهذا، يتعين على زعماء أميركا الجنوبية، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، أن يركزوا على تغيير الاستراتيجيات الاقتصادية لبلدانهم وإنتاج سلع أكثر تطوراً. كما ينبغي أن تتمحور خطاباتهم حول السعي لإنفاق قدر ما تنفقه فنلندا مثلاً على البحث والتطوير، وتسجيل معدلات مرتفعة في اختبارات «بيسا» على غرار الصين، وتسجيل ما يماثل العدد الذي تسجله كوريا الجنوبية من براءات اختراع جديدة. ولكنهم للأسف منهمكون في الحديث عن الماضي، غافلين عن العاصفة التي تقترب من سواحلهم. أندريس أوبنهايمر محلل سياسي متخصص في شؤون أميركا اللاتينية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»