ينطلق المؤلف والخبير الاقتصادي الفرنسي أولفييه لاكوست في كتابه: «الأزمات المالية، التاريخ والآليات والرهانات» من استدعاء موسع لتاريخ الأزمات النقدية والاقتصادية الكبرى التي عرفتها أوروبا، والغرب بصفة عامة، على امتداد تاريخ النظام الرأسمالي، مبرزاً أن ثمة دائماً مجموعة من العوامل المؤثرة والعناصر المكونة الكامنة وراء نشوب أية أزمة مالية أو اقتصادية ذات زخم إقليمي أو دولي كبير. ولعل مما يزيد من قيمة هذا الكتاب ضرورة وجود نموذج إرشادي لتفسير ظاهرة الأزمات المالية، مع تصاعد الأزمة النقدية الراهنة في أوروبا، التي جعلت كثيرين ينظرون إلى المشروع الأوروبي كله بكثير من الحذر. وقد أدت الدراما المالية اليونانية، وما تبعها من ترنح العملة الأوروبية الموحدة، إلى الحديث بشكل غير مسبوق عن احتمال خروج عضو من منطقة «اليورو»، وهو ما لم يكن أحد ليتصور حتى احتمال الحديث عنه، قبل سنوات قليلة. ويؤكد المؤلف ابتداءً أن الأزمات النقدية، التي تتحول بسرعة إلى أزمات اقتصادية جارفة، إن لم تجد علاجات وحلولاً ناجعة تطوق مخاطرها في وقت مبكر، تؤدي بحكم منطق السببية إلى أزمات اجتماعية لاحقة، لترابط حركة الاقتصاد بحراك المجتمع ككل، فالركود والكساد يؤديان إلى تفشي البطالة في صفوف شرائح عريضة من المجتمع، ويزداد الاحتقان الاجتماعي العام، مع كل ما يترتب على ذلك من تداعيات سياسية كثيرة. ومن هنا يكون من الضروري الإسراع بتشخيص أسباب الأزمات المالية والاقتصادية في وقت مبكر، وهذا هو ما يحاول «لاكوست» المساهمة فيه من خلال تفكيك الأسباب المؤدية للأزمات، وتحليل المظاهر والطرق الصعبة التي تتشكل بها دواماتها، وصولاً إلى اقتراح حزمة حلول جذرية لمنع وقوعها، أو لتلافي ضررها وتجاوز الأخطر فيها في حال تحولها إلى حقيقة ماثلة، وأمر واقع، كما هو حال الأزمة المالية والنقدية الأوروبية، طيلة السنوات الماضية. ويعقد المؤلف في كتابه الواقع في 204 صفحات عدة فصول لدراسة كل أزمة مالية على حدة، وما يميزها عن غيرها، مع محاولة استخلاص القوانين الناظمة والأعراض المشتركة بين كل هذه الأزمات، ابتداءً من أزمة 1929 المالية والكساد العظيم الذي تلاها، وصولاً إلى أزمة الرهن العقاري وأزمة «اليورو». كما لا يغفل الكاتب أيضاً المقارنة بين ردود فعل السلطات تجاه كل أزمة على حدة، مبرزاً التدابير التي كانت فعالة، في مقابل تلك التي فاقمت مفاعيل الأزمات وتداعياتها، وإن كان في كل الأحوال يسعى للتأكيد على أن بعض سياسات وسمات النظام الرأسمالي، في جانبه المالي والنقدي خاصة، تأتي دائماً على رأس الأسباب، حين لا تتناسب مخرجات الاقتصاد الحقيقي، مع مغامرات المنظومة المالية، أو سلبيات وفقاعات وطفرات المضاربات غير المستندة إلى اقتصاد قوي، وقادر على تطويق ما قد ينتج عنها من ديون أو ارتهان لسياسات غير عقلانية، وقصيرة النظر، قد تطلق أسوأ ما في السوق من مفاجآت. وفي المجمل يسعى «لاكوست» في هذا الكتاب لتقديم تفسير وتيسير لفهم آليات وميكانيزمات الأزمات المالية بشكل عام، لأن الفهم هو أول خطوة على طريق البحث عن حلول للأزمات، ووضع ما يشبه القوانين العلمية، التي تسمح بالتنبؤ باحتمال ظهور شبحها، وتساعد على ترويض جموحها، في حال نشوبها بشكل خارج عن السيطرة. حسن ولد المختار الكتاب: الأزمات المالية المؤلف: أولفييه لاكوست الناشر: إيرول تاريخ النشر: 2015