يظل فيلم «كازابلانكا»، وهو فيلم إثارة رومانسي، بطولة همفري بوجارت، انجريد برجمان، وبول هنريد، ومُنتج في أربعينيات القرن الماضي، واحداً من أشهر الأفلام التي أنتجتها هوليوود في تاريخها. تدور أحداث الفيلم عام 1942، ويحكي عن محنة الملايين من البشر الذين وجدوا أنفسهم محاصرين في الدول الأوروبية المحتلة بقوات ألمانيا النازية، والذين يسعى الكثيرون منهم للحرية في الولايات المتحدة الأميركية، فيذهبون إلى «كازابلانكا» (الدار البيضاء)، التي كانت في ذلك الوقت جزءاً من «فرنسا الحرة»، على أمل السفر جواً إلى مدينة لشبونة المحايدة، ومن هناك إلى أميركا بواسطة البحر. بعد ذلك التاريخ بـ70 عاماً ينعكس الوضع، حيث نرى هذه المرة مواطنين من أفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب غرب آسيا، يحاولون بشتى الطرق، شق طريقهم لأوروبا، وعلى وجه الخصوص إلى ألمانيا، هرباً من فوضى الحروب الأهلية التي تبدو بلا نهاية، ومن الإرهاب والعنف العشوائي في بلدانهم. المفارقة الساخرة في هذا السياق هي أن ألمانيا قد أصبحت هذه المرة منارة الحرية في أوروبا، حيث تعتبر، حتى الآن، الدولة الأوروبية الأكثر تعاطفاً مع محنة اللاجئين. ومن المتوقع منح 800 ألف لاجئ حق اللجوء لألمانيا هذا العام، وهو رقم يقر أكثر الألمان تعاطفاً، أنه إذا ما تكرر عاماً بعد آخر، فإن بلدهم لن يكون قادراً على الاستمرار في استقبال اللاجئين، لأن تدفقهم بهذه الوتيرة سوف يولد رد فعل سياسياً عنيفاً يطال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويجادل الساسة من التيار اليميني في مختلف الدول الأوروبية بالقول: إن القواعد المنظمة لمنح اللجوء رخوة أكثر مما ينبغي، وأن العديد من اللاجئين القادمين يسعون إلى الفرص الاقتصادية، وليس للفرار من أخطار مباشرة تمس حياتهم. غير أن اكتشاف 71 جثة متحللة للاجئين سوريين في شاحنة مهجورة في النمسا مؤخراً، جاء ليمثل أحدث قصة من قصص الرعب التي تتكشف تفاصيلها المروعة، خلال هذه الفترة التي تعتبر واحدة من أخطر الفترات في التاريخ الحديث للهجرة. وقد ساهمت هذه القصة المرعبة في تغيير الرواية المتداولة بشأن اللاجئين، لتغدو أكثر تعاطفاً. فقد أوردت وسائل الإعلام بقدر واف من التفصيل، أنباء الآلاف الذين غرقوا وهم يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط في قوارب مكتظة، تفتقر لأدنى درجات السلامة، تمتلكها عصابات التهريب المتخصصة في سلب أموال المهاجرين، من خلال تقديم الوعود لهم بنقلهم إلى دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لكن طالما أن المشاهد اليومية للمهاجرين ظلت مقتصرة على هؤلاء الذين يعبرون من شمال أفريقيا وتركيا إلى اليونان، فإن التفاصيل المتعلقة بالمأساة التي تتبلور على أرض الواقع، سيتم التقليل من شأنها إلى أقصى حد ممكن، وعلى وجه الخصوص من قبل دول وسط وشمال أوروبا البعيدة عن الأحداث الجارية. لكن ما يحدث بالفعل، هو أن أوروبا بأسرها باتت تستيقظ الآن، وعلى نحو آخذ في التزايد، على حقيقة أن الأزمة قد وصلت إلى نقطة حرجة، وأنه ما لم يكن هناك تعاون بدرجة أعظم من أجل الوصول إلى حل أوروبي لهذه الأزمة، فإن الكارثة السياسية والاجتماعية المترتبة على ذلك ستصبح أكثر سوءاً بما لا يقاس. وفي الوقت الراهن، تقوم المجر بوضع ضوابط حدودية أكثر صرامة بكثير من المطبقة حالياً، وذلك بالتعاون مع دول غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وخاصةً صربيا.. كما تضع قيوداً على عدد اللاجئين الذين يستطيعون، بمجرد وصولهم، الانتقال إلى النمسا، حيث لا توجد، نظرياً، ضوابط حدودية بين معظم دول الاتحاد الأوروبي. وبسبب الـ71 مهاجراً الذين لقوا حتفهم في النمسا، فإن المعابر الحدودية بين تلك الدول، والتي تكون مفتوحة في الظروف العادية، تتم الآن مراقبتها بكثير من الصرامة، في محاولة لإيقاف تدفق اللاجئين. لكن التأثير المباشر لهذه الإجراءت يتمثل في إبطاء معدل التدفق، وزيادة معاناة وبؤس اللاجئين في الآن ذاته، كما يبدو مثلا من القرار الذي اتخذته دولة مثل سلوفاكيا، وأعلنت من خلاله استعدادها لاستقبال 200 لاجيء سوري فقط، لكن بشرط أن يكونوا مسيحيين! ومن المعروف أن معظم الاقتصادات الأوروبية مازالت تكافح من أجل العودة إلى معدلات النمو الصحية، والتي كانت سائدة قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008. مما يعني بالتالي أن أي تدهور فيها سيفاقم من مأساة المهاجرين، وزيادة قوة الأحزاب اليمينية المناوئة لهم. المفارقة الساخرة هنا، هي أن أوروبا تحتاج، في المدى الطويل، إلى إدماج عمال في سن الشباب في اقتصادها ونسيجها الاجتماعي لتعويض سكانها الشائخين. لكن إذا ما تفاقمت ظروف البطالة، أو حدث ركود اقتصادي جديد، فإن هذه الظاهرة التي تحولت إلى أزمة سياسية، يمكن أن تتطور إلى كارثة ذات أصداء قومية مشؤومة في تاريخ أوروبا الحديث.