لاشك أن علاقة فرنسا بمواطنيها المسلمين تعتبر من ضمن أكبر التحديات التي تواجه هذا البلد. ويرجّح بقوة أن تصبح هذه القضية، على كل حال، رهاناً كبيراً في سجالات الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2017، وذلك لبعدها بالغ الأهمية وشديد التأثير، سواء فيما يتعلق باهتمامات وتوازنات المجتمع الفرنسي في الداخل، أم بدور البلاد ومكانتها على المسرح الدولي. وهنالك الآن خياران على الطاولة، خيار أن نعتبر أن المسلمين هم مواطنون فرنسيون كاملو المواطَنة (وهم يشكلون نحو 10% من السكان)، وبالتالي من حقهم التمتع بكامل الحقوق كغيرهم، وإن كان هذا لا يعني أيضاً، بطبيعة الحال، أن من حقهم فرض رؤيتهم للعالم على بقية مواطنيهم. ولا يعني أيضاً بالضرورة تحقق كل مطالبهم، بقدر ما يعني التفكير في أن من حقهم التعبير عنها بحرية. فهم أبناء الجمهورية، لهم كامل الحقوق وعليهم كافة الواجبات، تماماً كغيرهم من الفرنسيين. والخيار الثاني أن ننظر إلى مسلمي فرنسا على أنهم عنصر خارجي وأجنبي على الجمهورية الفرنسية، وأنه يمكن التسامح مع وجودهم بشرط واحد فقط هو عدم الانخراط في تظاهرات وأنشطة احتجاجية جماعية أو رفع تطلعات مطلبية محكوم عليها بالضرورة بأنها مضادة للقيم الجمهورية، وخطيرة على انسجام المجتمع الفرنسي. وضمن هذا الخيار أو النظرة الأخيرة تندرج محاولات فرض ممثلين عليهم، يتم تعيينهم من خارج مجتمعهم، وبعض هؤلاء الممثلين لا يعبرون عن مطالبهم وتطلعاتهم بل يَلقون، بوضوح، الرفض وعدم القبول في صفوف النسيج السكاني الفرنسي المسلم. ولم تكن أيضاً وسائل الإعلام الفرنسية تتأخر كثيراً عن المساهمة في تقديم المسلمين بطريقة متحاملة، بل ونشر خطاب تشويهي للإسلام وإشاعة صور نمطية سلبية عن المسلمين، وهو ما لا يقع لأي شريحة اجتماعية أخرى في فرنسا. وهنالك أيضاً من يرفض، من الأساس، حقهم في تنظيم أنفسهم بأنفسهم. والسؤال الذي لا يني يطرح نفسه هنا باستمرار هو: لماذا ينكر البعض على المسلمين الفرنسيين حقهم في اختيار الوجوه التي تمثلهم حقاً، والتي يجدون في خطابها صدى لأصواتهم وتطلعاتهم؟ صحيح أن تفشي التطرف والراديكالية في صفوف أفراد من المسلمين يمثل تحدياً حقيقياً لابد من التصدي له بحزم. وهذه مشكلة ينبغي عدم التستر عليها أو التقليل من خطرها، ولكن يلزم الاعتراف أيضاً بأن الفرنسيين المسلمين، ليسوا مسؤولين عنها، بشكل جماعي، ولا ضالعين فيها بأي وجه كان. وهنالك من المتحاملين من يرى أن هذا التطرف مرتبط بطبيعة الإسلام، فيما يرى آخرون أنه ناتج عن لحظة تاريخية مثقلة بتحديات متعددة الأبعاد، مع قناعة بأنه يمكن مواجهة التطرف العنيف والقضاء عليه بحزمة من التدابير والاستجابات الأمنية والسياسية الفعالة. ووفق هذا المنطق فما دامت الإسلاموفوبيا والراديكالية تغذي كل منهما الأخرى فإنه لابد من محاربتهما معاً، وبتدابير متزامنة وجهود متلازمة. والسؤال: هل ما زال البعض حقاً يعتقدون ألا مكان للمسلمين في فرنسا إلا بشرط عدم تصدرهم للحديث عن أنفسهم وتطلعاتهم دون تدخل من الغير، وبشرط أن يبقوا في مكانتهم، التي كانوا فيها منذ أربعين عاماً، في القاع، بل في القاع البعيد، دون أدنى حقوق، كما لو كانوا «ذمِّيين» من نوع جديد؟ لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتغير الزمن والواقع، ومن يجترُّون مثل تلك الأوهام، لأسباب مختلفة، لم يفهموا بعد حجم التحول الجذري الذي وقع. والراهن أن فرنسا اليوم أمامها الخيار بين مجتمع مفتوح وديناميكي، وجذاب ومستقر، أو مجتمع مترنح في صراعات لا نهاية لها، وحلقة مفرغة يغذي فيها المتطرفون، من مختلف التوجهات، خطاب العنف والتطرف والاحتقان، ويخدم بعضهم أجندة بعض آخر، حتى ولو كان ذلك بصفة غير مباشرة. وليكن مفهوماً للجميع أن المسلمين الفرنسيين لن يرحلوا من هنا، ولن ينحنوا أبداً. فهم يريدون أن يكون لهم مكان على طاولة الجمهورية. وقد تمكنوا سلفاً من تكوين طبقة متوسطة عليا استطاعت الوصول إلى موقع المسؤوليات والمناصب الرفيعة. وأي سعي لاستبعادهم أو تهميشهم ليس ممكناً، ولا مرغوباً فيه أصلاً. ثم إن مجرد وجود هذا النوع من النزوع الإقصائي الاستئصالي من شأنه أن يعطي، في الخارج، صورة بالغة السلبية عن فرنسا، لكونه مناقضاً ومناهضاً، من الأساس، لتقليدها المعهود في الانفتاح على العالم والروح الكونية الجامعة. وفوق ذلك فالمسلمون الفرنسيون اليوم لم يعودوا في أغلبيتهم مجرد عمال غير مؤهلين همّهم الوحيد هو العودة إلى مواقع سكنهم الجماعي، دون التعرض لعنف أو مضايقة، كما كان حالهم في عقد السبعينيات من القرن الماضي. وعلى العكس من ذلك فمن بينهم اليوم مهندسون، وأساتذة جامعات، ومحامون، وأطباء... إلخ. وإذا كان ما يشبه السقف الزجاجي ما زال قائماً دون تطلعاتهم في بعض مناصب المسؤولين السياسيين، وحكام المقاطعات، والجنرالات، ومديري الشركات، إلا أن هنالك طبقة متوسطة عليا في صفوف المسلمين الفرنسيين تنامت في الوزن والحجم، وإن كان لا يجري الحديث عنها إلا لماماً، أو حتى يجري تجاهلها من الأساس. ولكن وجودها يزداد قوة وتأثيراً، وينبغي أن يكون داعياً لمزيد من الأمل، والعمل والتعبئة من جانب المسلمين الفرنسيين أنفسهم. ومن حقهم طبعاً القول إنهم ما زالوا يتعرضون لقدر من التمييز أكثر من أية شريحة أخرى من مواطنيهم (باستثناء شريحة الرومن: الغجر)، ولكن عليهم الاعتراف أيضاً بأن تقدماً كبيراً قد تحقق، لحسن الحظ، لجهة تعزيز دورهم وحضورهم ومكانتهم المستحقة، وأن يعوا أن النضال من أجل المساواة والإنصاف لا يذهب سدى، بل على العكس، عليهم مواصلته، لأنه هو وحده ما سيكسب الرهان، في النهاية.