دسّ بعضهم أنفه في قرار تخصيص أرض لإقامة معبد في الإمارات، والذي جاء بالتزامن مع زيارة أول رئيس وزراء هندي للدولة منذ 34 عاماً، ما حدا بالعقلاء إلى وضع الأمور في نصابها بأطروحات تناولت القضية من جوانب مختلفة. ويمكن تلخيص تلك الآراء بأن السماح بتلك الدور يدخل في باب المعاملة بالمثل، وبأن المصلحة العليا للبلد تقتضي ذلك، وبأنه لا بديل عن التوافق مع التوجهات الحديثة التي تؤكد على حرية التعبّد، والتي من مستلزماتها وجود دور عبادة، وبأن أتباع تلك الديانات ليسوا قلة قليلة، وتحق لهم داراً يتعبدون فيها. وبعض الآراء تناولت الأمر من زاوية أنه «لكم دينكم ولي دينِ»، وبعضها ناقشته فقهياً، موضحةً أنه لا يوجد نص يحرم ذلك. وبعضها استدلت على شواهد تاريخية تسامحت في بناء تلك الدور، ولوجود معابد قديمة وحديثة في الكثير من البلاد الإسلامية. وتحدثت بعض الآراء عن خصوصية هذا الجزء من العالم الذي لم يعرف التشدد، وكان على الدوام متسامحاً. وبعضها رأت أن هذا لا أثر له على عقيدة الإسلام الراسخة في النفوس، وبأن التسامح مع أتباع دين لا يعني موافقتهم على اعتقاداتهم، وبأن في ذلك تحسيناً لصورة المسلمين التي ارتبطت بضيق الأفق. وأعتقد أنه من المهم أيضاً النظر إلى الموضوع من زاوية فكرة الدين، السماوي أو غير السماوي، والمقصود بالعبادة، والذي يتوجّه إليه كل معتنق دين، ويخضع له، ويتضرع إليه، إذ ليس ثمة مقصود سوى الله، وليس من شأننا بعد ذلك تصوّر ذلك العبد لمقصوده، فهو يعتقد صادقاً مع نفسه بأنه متوجه إلى الله، واشتباه أمر ربّه عليه كما نعتقد نحن، لا ينفي أنه متوجّه إليه كما هو في الحقيقة، فربّه يعرف أنه المقصود بذلك، والملك الذي يرى من شرفته بعض رعيته وهم يؤدون -بصدق وإخلاص- فروض الولاء والطاعة أمام منزل كبير مجاور ظناً منهم أنه قصره، يعرف أن هؤلاء يقصدونه هو، ويدينون له هو بالولاء والطاعة. ويبقى هذا المختلف عنّا دينياً إبناً لبيئته التي لم يخترها بنفسه، ونشأ وتربى في قالب معين لم يكن من صنع يديه، ولم يعاند أو يجحد ما نعتقد نحن أنه الحق، أعني أنه ليس أبا جهل كما قد نتصور، يركب خيل العناد، ويستلّ سيف الجحود، ويذهب لمقاتلة الحق بعد أن استيقنه قلبه. ومن ثم، فإن مفاهيم مثل الشرك والكفر قد لا تجد لها محلاً من الإعراب في مثل هذه الحالات عند فهمها والتعمق فيها. كما أن الأديان توفر لأتباعها منظومة أخلاقية وسلوكية تجعل الآخرين في مأمن منهم إذا التزموا بها، وهو الأمر الذي يهم البشرية في نهاية اليوم، وليس ثمة أي ضرر قد يصيبنا من انقياد إنسان لربّ يأمره بضبط سلوكه، وبمعاملة الناس بالحسنى، وبكفّ أذاه عنهم، وبالثواب على الخير، والعقاب على الشر. وفي تراثنا الإسلامي، نجد ذلك الصدر الرحب بالتعددية الدينية، حتى قيل: «حسنك واحد -يا الله- وعباراتنا شتى»، وقال ابن عربي عن قلبه الكبير الذي يسع الجميع: «وقابلاً كل صورةٍ.. فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبانِ.. وبيت لأوثانٍ وكعبة طائفٍ.. وألواح توراةٍ ومصحف قرآنِ».