لابد لي أن أبدأ مقالي بنقد ذاتي لأنني ظننت وهما أنني صغت –من واقع تأملاتي في تاريخ مصر المعاصر -«مفهوم الدولة التنموية». وذلك بناءً على دراسة تجربة ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة «جمال عبد الناصر» والتي اعتبرتها هي التي أسست نموذج «الدولة التنموية» بمعنى أن الدولة هي التي تحدد الرؤية الاستراتيجية للتنمية، ليس ذلك فقط، ولكنها هي -عن طريق مشروعات صناعية متعددة- التي تقود التنمية -بالإضافة إلى الإصلاح الزراعي ورفع مستوى الخدمات الاجتماعية في مجال التعليم والصحة ووضع برامج للتدريب والتشغيل- مما يكفل سدّ الفجوة الطبقية الكبرى التي كانت سائدة قبل ثورة يوليو بين الذين يملكون والذين لا يملكون في ريف مصر وحضرها. وسبب ممارستي للنقد الذاتي أنني اكتشفت- عبر رحلة بحث علمية عميقة- أن مفهوم «الدولة التنموية» مستقر في التراث العلمي الاجتماعي منذ أن نشر عالم السياسة الأميركي المعروف «كالمرز جونسون» كتابه عن «الميتي MIIT»- وهو اختصار اسم وزارة يابانية متخصصة في التنمية الاقتصادية والتجارة الدولية- وعن المعجزة اليابانية، وذلك في عام 1982 عن مطبعة جامعة كاليفورنيا. ومنذ ذلك التاريخ لم ينقطع الجدل العلمي حول مفهوم «الدولة التنموية» التي اعتبر جونسون اليابان نموذجاً مثالياً ideal Type لها. وتعريف الدولة التنموية في أدبيات الاقتصاد السياسي أنها تشير إلى ظاهرة الدولة التي تقود التخطيط الاقتصادي على المستوى الكلي في شرق آسيا أساساً، وذلك في العقود الأخيرة من القرن العشرين وفي هذا النموذج من نماذج الرأسمالية الذي يشار إليه أحياناً برأسمالية «الدولة التنموية»، أنها الدولة التي لها استقلال وذاتية خاصة في مجال القوة السياسية، بالإضافة إلى سيطرتها على الاقتصاد. والدولة التنموية تتميز بالتدخل القوي في مجال الاقتصاد، بالإضافة إلى سلطاتها الواسعة في مجال التنظيم والتخطيط. وهناك اتجاهان في وصف الدول التي تتدخل في مجال الاقتصاد. الاتجاه الأول في مجال العلاقة بين رجال الأعمال والحكومة، وهو يركز على تنظيم المنافسة الاقتصادية لا أكثر ولا أقل، مثل الولايات المتحدة الأميركية، والاتجاه الثاني لا يقنع بتنظيم المنافسة وإنما تقوم فيه الدولة نفسها بالتنمية، تخطيطاً وتنفيذاً، ويمكن أن يشارك القطاع الخاص في هذا المسعى. ومن هنا يختلف هذا النموذج عن النموذج الرأسمالي التقليدي الذي ينفرد فيه القطاع الخاص بجهد التنمية. ويمكن القول إنه منذ أن صك «جونسون» مفهوم الدولة التنموية والجدل لم ينقطع حول سلبياتها وإيجابياتها. وذلك لأن النموذج الرأسمالي الخالص لا يحبذ إطلاقاً تدخل الدولة في الاقتصاد، لأن «اليد الخفية» -كما قرر من قبل «آدم سميث»- هي التي ستقوم بالتوازن المطلوب بين العرض والطلب. غير أن هذا النموذج الاقتصادي الرأسمالي الكلاسيكي سقط في الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الأميركي في عام 2008، والتي كانت في الواقع «أزمة اقتصادية»، لأن الرئيس الأميركي «أوباما» اضطر إلى أن يضخ أكثر من 600 مليار دولار لإنقاذ الشركات الرأسمالية والبنوك الخاصة التي أفلست. لذلك فالسؤال المطروح في العالم الآن هو: ماذا بعد سقوط النموذج الرأسمالي التقليدي؟ والإجابة هي: لابد أن تتدخل الدولة اقتصادياً بشكل ما وبدرجة ما، لكن الحيرة البالغة أمام أكبر علماء الاقتصاد الغربيين هي سؤال: إلى أي مدى للدولة أن تتدخل؟ والواقع أن مفهوم الدولة التنموية قد حلّ المشكلة من جذورها، لأن هذه الدولة لا تفتح الباب واسعاً وعريضاً للقطاع الخاص ورجال الأعمال لكي يستثمروا أموالهم كما يشاؤون وفي أي ميدان، ولكنها في الواقع ترسم سلفاً «خريطة تنموية» تحدد مجالات الاستثمار التي ترغب الدولة أن يشاركها القطاع الخاص فيها، مثل ميدان الطاقة في مصر مثلا، أو ميدان تحلية مياه البحر، أو ميدان المصانع كثيفة العمالة التي يمكن أن تسحب الآلاف من مجال البطالة الدائمة أو المؤقتة. وبعد انهيار الدولة الرأسمالية التقليدية، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية التي وقعت فيها الأزمة الاقتصادية عام 2008، ثبت أن النموذج الرأسمالي الذي كان يقوم على ترك الحرية المطلقة للسوق كي يعمل بدون تدخل الدولة على أساس أن «اليد الخفية» -كما أطلق عليها «آدم سميث»- هي التي ستحقق التوازن بين العرض والطلب.. قد انهار. ويبقى السؤال: هل يمكن أن تكون «الدولة التنموية» هي الحل في مجال التوفيق الخلاق بين الحكومة ورجال الأعمال؟