في أواخر تسعينيات القرن الماضي قال لي الراحل عبد الوهاب المسيري إنه كتب عن فكرة «نهاية التاريخ» في كتاب له صدر عام 1972، واحتل ذلك التعبير جزءاً من عنوان الكتاب. كان ذلك قبل صدور كتاب فوكوياما بعشرين سنة. اختلفت فكرة المسيري عن فكرة فوكوياما جوهرياً، فبالنسبة للأول كانت فكرة «نهاية التاريخ» هي الخلاصة التي تحملها أية أيديولوجية فاشية ترى في نفسها المآل النهائي للبشرية، وترى في ما تطرحه الخلاص المحتم والوحيد للعالم والتاريخ وبالتالي النهاية الطبيعية له. «نهاية تاريخ» فوكوياما كما نعلم هي انتصار الليبرالية الغربية ورأسماليتها في مواجهة الشيوعية، وهو الانتصار الذي دوى عالياً إثر انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال التهديد الشيوعي الأيديولوجي للرأسمالية، بكونه التهديد الأكثر جدياً لها منذ تبلورها. لا تتوقف هذه السطور عند جوهر هذه الفكرة أو تلك، بل ما تتأمل فيه هو انتشار فكرة معينة وكتاب بشكل هائل مقابل عدم انتشار فكرة أخرى وكتاب آخر قد لا تقل أهميتهما. أذكر تماماً نبرة المرارة التي كانت تغلف كلمات المسيري وهو يقارن بين الإحتفاء العالمي والشهرة الطاغية التي حظي بها فوكوياما وكتابه، والجهل وعدم المعرفة التي كانت مصير كتابه هو. مثال المسيري_فوكوياما ليس فريداً بطبيعة الحال ولا استثنائياً، بل يمكن القول وبكثير من الثقة إن هناك آلاف الكتب والأفكار صدرت ولا تزال تصدر بلغات عديدة، وفي جهات مختلفة من العالم، لكنها غير محظوظة ولا مؤلفيها لأنها لم تصدر بلغة من لغات المتروبول الغربي المتسيدة راهناً، ولم تصدر في قلب تيار النشر العالمي الذي يعمل على الترويج للكتب والأفكار وتسويقها ضمن آليات نشر معقدة ومعولمة. فهل كنا سمعنا مثلا بـ «صراع حضارات» صاموئيل هانتنغتون أو حتى بـ «استشراق» إدوارد سعيد وما رافق انتشارهما ورواجهما منذ صدورهما في القرن العشرين لو كانا قد صدرا بالأوردو، أو المالاوية، أو الأمهرية، أو لو عاش مؤلفوها في الكونغو، أو سورينام، وتحدثوا وكتبوا بلغاتها؟ وكذا هل كان العالم قد وصله ما كتب ابن رشد وابن خلدون وابن سينا لو كانوا قد عاشوا في ما كانه الكونغو، أو سورينام، وكتبوا بلغاتها؟ تنتشر اللغة والثقافة وما تنتجان من أفكار وكتب على رافعة الفعالية الحضارية والقوة والنفوذ للحضارة المعنية، وهذا هو المدخل الأولي لتأمل تلك الانحيازات في الانتشار والسيادة. وتتداول الحضارات على امتلاك ناصية، أو إمبريالية، الثقافة وما يصدر عنها من كتب وأدب وأفكار إلى أن يحين دور هذه أو تلك. لا نعرف مثلاً إنْ كان ثمة كاتب عبقري يبدع في بقعة نائية من عالمنا اليوم بلغته المحلية التي لا تُترجم الى «اللغات الحية»، ولا أحد يتابع أفكاره، ولا أحد منا يعرف ماذا يكتب ذلك العبقري. لا نعرف أيضاً ما إنْ كانت هناك فكرة أو كتاب خارق للعادة نشر حديثاً أو منشور قديماً، لكنه بعيد عن دائرة الضوء المُسيطر عليها من قبل اللغات والثقافات المتسيدة اليوم. لا نعرف كيف يمكن أن يُزاحم كتاب أو فكرة يتبلوران بعيداً عن المساحات المُسيطر عليها ثقافياً بإمبرياليات وأفكار وأعلام الأنجلوفون أو الفرانكوفون أو الإسبانوفون. كأنه قانون مُستل من الفيزياء أن تترافق إمبريالية ثقافية ولغوية مع مبرياليات الجيوش والنفوذ والأديان والاقتصاد والتمدد الجغرافي. فعلى روافع السيطرة اللغوية والانتشار والإعلام المُعولم والأكاديميات التي تدور في فلك اللغات السائدة تتقدم الكتب التي كُتبت بلغات المتروبول، وتصير مصدر الانتاج الفكري «العالمي»، ويتهمش غيرها ما لم يركض إلى نفس الدوائر، ويُنتج بنفس اللغات ووفق القواعد المرُسمة من قبل تلك الثقافات الظافرة. ليس هذا حصراً في إمبرياليات اليوم الغربية، بل هو سمة لصيقة بكل إمبريالية انتجتها البشرية في جهاتها الأربع. وهنا والآن، وكما هناك والأمس، يبقى سؤال الحضور والمنافسة من قبل أفكار وكتب «الهامش» صعباً وثقيلاً وشبه يائس. اليوم تبطش إمبريالية وسيادة الإنجليزية حتى بلغات المتروبول الأخرى كالفرنسية والإسبانية والألمانية، وفيه يصبح فضاء الأنجلوفون العنوان الأهم لانتاج الكتب والأفكار. ويبدو الأمر مضمار سباق غير عادل، مسارات العدائين فيه متفاوتة السهولة والعسر. المحظوظون القلة، التابعون لفضاء اللغة والثقافة الظافرة، يمتد أمامهم مسار ممهد، مفرودة على جانبيه عوامل الاسناد: إعلام يحتفي بإنتاجهم، سوق يلتهم ما يصدرون ويضاعف نشره وتوزيعه، جامعات ومراكز بحث تناقش أفكارهم وتستضيفهم. الأكثرية غير المحظوظة تمتد أمامها مسارات سباق تعج بالعقبات، أولها ضرورة أن الانتقال إلى الفضاء المتروبولي الثقافي والكتابة بلغته للظفر بالاهتمام. لكن، تتغرب الأفكار عن بيئتها الحضارية عندما تتقولب في لغات ثانية، وتصبح علاقتها بالأصل واهية ومُتسمة بالحيرة والتوتر. *كاتب وأكاديمي عربي