عرف تاريخ العراق أكثر من «خضراء». كان أولها القبة الخضراء لقصر الحَجاج بن يوسف الثقفي (ت 95ه)، الذي شيده بمدينة واسط، وظلت بعده قائمة حتى عام 332ه (المسعودي، مروج الذَّهب)، وربما تيمناً بما فعله الحجاج، شيد المنصور (ت 158هـ) قُبة فوق قصره بالجانب الغربي مِن بغداد، عُرفت بخضراء أبي جعفر المنصور. تحدث المؤرخون عن حصانتها واتخاذها لمراقبة الخارجين أو المقتحمين للقصر، ووضع البناؤون «على رأس القُبة تمثال فرس، وعليه فارس، وكانت القبة الخضراء تُرى مِن أطراف بغداد». تحدث المؤرخون عن آلية المراقبة المشددة، فإذا ما حصل هجوم تحرك الرمح بيد الفارس إلى جهة الخطر (البغدادي، تاريخ بغداد)، ومكانها لم يكن بعيداً عن خضراء اليوم، إذ كان محلها الكرخ أيضاً. وجاء في نهاية خضراء أبي جعفر: «سقط رأس القُبَّة الخضراء، خضراء أبي جعفر المنصور، التي في قصره بمدينته يوم الثَّلاثاء 7 جمادي الآخرة 329هـ.. وكانت هذه القبة تاج بغداد، وعلم البلاد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظمةً، وبنيت أول ملكهم وبقيت إلى هذا الوقت، فكان بين بنائها وسقوطها مئة ونيف وثمانون سنة» (تاريخ بغداد). كنتُ كتبتُ مقالاً تحت عنوان «احذروا الزَّحف على الخضراء»! أقصد خضراء زماننا لا خضراء المنصور، فليتها ظلت لنا أثراً، جاء فيه: «أستهل المقال بالترحم على أرواح من سقطوا في تظاهرات الخبز والكهرباء وضد الفساد برصاص الديمقراطية في أنحاء العِراق كافة» (الاتحاد: الأربعاء 2 مارس 2011). وها هي تمر أربع سنوات ويُعود تهديد المتظاهرين باقتحام الخضراء، الحصن الحصين لأسرار ما قبل وبعد أبريل 2003، وقد بثت الأخبار أن رئيس الوزراء حيدر العبادي أصدر توجيهاً بفتح الطرقات المؤدية إليها، وإزالة الحراسات والموانع، ولا نعرف هل كان هذا تهدأةً للغاضبين أم تهديداً للقابعين في قصورها مِن الفاسدين؟ مِن الذين أمروا بإطلاق الرصاص ونعت المتظاهرين آنذاك (ربيع 2011) بـ«البعثية والقاعدة»، فرد المتظاهرون بمدينة الديوانية: «لا قاعدة ولا بعثية إحنا أهل الديوانية»! كانت كرادة مريم، غربي بغداد، مفتوحة الأرجاء، شُيد فيها القصر الملكي الذي تحول إلى الجمهوري، ثم المجلس الوطني، فقامت سفارات بعض الدول فيها، وحتى بدايات عقد السبعينيات لا موانع من الدخول إليها. تحولت بعدها تدريجياً إلى منطقة محظورة بالكامل، ونشأت على أرضها القصور الرئاسية، وأصلها أرض زراعية، كانت حسب ما ينقله البلدانيون جزءاً من «طسوج بادوريا»، المعروفة بخصوبتها على شاطئ غربي دجلة، من يشرف على خراجها يكون في نعمة، حتى قيل: «وأديت في بادوريا ومسْكن/ خراجي وفي جنبي كنار ويعمرُ» (الحموي، معجم البلدان). شاع أن الضريح الذي يتوسطها لمريم العذراء، وظهر أنه لامرأة مُحسنة اسمها مريم، فعُرف المكان بـ«كرادة مريم» (رؤوف، الأصول التاريخية لمحلات بغداد). وصار اسمها «المنطقة الخضراء»، مِن دون مقدمات، والبداية كانت من الإعلام الغربي (Green Zone)، وكان البغداديون يأملون بفتحها بعد حجرها عنهم لثلاثة عقود، وجلاء أهلها الأُصلاء. بعدد أبريل 2003 سُكنت قصورها، بالنمط نفسه، وأتخيل الساكنين الجدد يتلمسون الجدران ويقبلونها، فما حدث أعجب مِن العجب، حتى قال أحدهم على سبيل المزاح، لكنه لا يبدو مازحاً بقدر ما كان تعبيراً عن دهشة وذهول، لأحد المعممين المسافر إلى أميركا: «اضرب لي ركعتين عند باب البيت الأبيض»، سمعتها مِن صاحب العِمامة ذاته! تحولت الخضراء إلى صناديق سُود بأسرارها، وزاد تحصينها مِن غرور ساكنيها، فالحصانة بالحمايات والمدرعات تجلب لصاحبها شدة القوام وخيال العظمة، والعزلة عما يحيطه، فيصبح عقله مركباً من الأوهام، لكلِّ هذا يقابلون طلاب الحقوق المحتجين بالسخرية، ولا يأخذون تهديدهم باقتحامها بنظر الاعتبار. صار هذا الحصن الحصين رمزاً للفساد، والائتلافات المدمرة، لذا يصبح هدفاً في حالة استمرار الغرور بوهم الحصانة. لا أظن أن خضراء زمننا ستبقى مدى الزمن الذي عاشته خضراء الحجاج أو المنصور، بعذر أنها محمية بديمقراطية الطائفية، وبرماح الحماية الأجنبية وأصنامها. لقد أسقطت التظاهرات الأقنعة، ولم يعد يهم العراقيين شيئاً غير الحفاظ على ما تبقى من البلاد. إذا لم يسرعوا بالحلول فالخضراء ليست عصية، لا رمح يتحرك بيد الفارس كي يخبر عن أفواج «الخوارج»، لأنهم ليسوا تنظيمات سرية، إنما قادمون علانية في وضح النهار. ينقل الخطيب البغدادي (ت 463هـ) عن أحوال يوم سقوط خضراء أبي جعفر المنصور: «مطرٌ عظيم ورعدٌ هائل وبرق شديد»، وأقول: الله أعلم ماذا سيكون يوم سقوط خضراء هذا الزمان، فليفهموها قبل فوات الأوان، لن تكون واشنطن حامية ولا طهران منقذة، ولا أنقرة حامية. ـ ـ ــ ـ ـ كاتب عراقي