مرّ العالم خلال الشهرين الماضيين بموجة حرّ شديدة امتدت من الهند شرقاً وحتى بعض الدول الأوروبية والمتوسطية غرباً، بلغت فيها درجات الحرارة أكثر من خمسين درجة مئوية، وأثرّت في سقوط أعداد من الموتى الذين تعرضوا لضربات الحرّ والشمس، ولم تستطع أجسادهم تحمّل عناء مثل هذه الأجواء. ومثلما احترّت شمس السماء فوق الأرض العربية، فقد سخنت أيضاً في المقابل الاحتجاجات الشعبية في عدد من الأقطار العربية، وكأنما كانت الأجواء محركة لقطاعات شعبية متعددة في العراق ولبنان وغيرهما للخروج في مظاهرات حاشدة، بدت لأول وهلة وكأنما هي ترفع مطالب شعبية، غير أنها تحولّت وبسرعة لرفع مطالب سياسية. وتختلف احتجاجات الصيف العربي الحالي عن احتجاجات ما سمي «الربيع العربي» عام 2011، ففي تلك الاحتجاجات كان الهدف السياسي واضحاً لها منذ البداية، وكانت المظاهرات العارمة معارضة لأنظمة سياسية عسكرية بالية، ومطالبة بإسقاط تلك الأنظمة، بدلاً من إصلاحها. أما مظاهرات الصيف العربي الساخن الحالي، فكانت في بلاد تعد «ديمقراطية» بالمعايير الغربية، وإن كانت ذات طبيعة ديمقراطية مشوهة. ففي العراق، حيث تنقطع الكهرباء بشكل شبه يومي، ولا يحصل المواطن على مياه نظيفة إلا بشق الأنفس، كان المواطنون في البداية يرفعون مطالب «خدمية» بحتة، ويطالبون بانتظام وصول الخدمات الأساسية إليهم. غير أن مظاهراتهم تغيرّت فيما بعد لإدانة «الطبقة السياسية الحاكمة» في البلاد، ممن يعيشون داخل «المنطقة الخضراء» التي تتمتع بكافة الخدمات وسبل المعيشة الآمنة، بعكس بعض المناطق الأخرى التي تعاني من نقص في الأمن والخدمات المعيشية. والغريب أن الاحتجاجات كانت أقوى ما تكون في المناطق والمدن الجنوبية، التي كانت تعيش تحت تأثير القوى والمراجع الدينية، غير أنها غيرّت توجّهها مؤخراً، وباتت أكثر علمانية، برفضها لوصاية الملالي المتحالفين مع الزعماء السياسيين. وقد أثارت هذه الاحتجاجات مخاوف الجارة (إيران)، حين زادت المطالب السياسية بمحاربة الفساد والوقوف ضد زعماء بعض الأحزاب السياسية ورجال البرلمان الذين خانوا ثقة الشعب فيهم، فأرسل «خامنئ» مندوبه «قاسم سليماني» لبعض الزعماء المحليين ورجال الدين في البصرة وكربلاء والنجف يحضهم على عدم انتقاد زعماء الأحزاب الموالية لإيران خشية من انفراط عقد نفوذها في العراق الذي تمارسه من خلال هذه الأحزاب. وفي المقابل نجد في لبنان أن وقف الخدمات البلدية لإزالة النفايات لمدة شهر ونصف قد أدى إلى تذمر عريض في الشارع اللبناني ونزول المئات إلى الشوارع مطالبين بتنظيف البلاد وإنهاء المشاحنات بين أقطاب السياسة اللبنانية في الحصول على كعكة من عقد تنظيف النفايات. وكأنما كانت النفايات كعكة تقطع حسب النظام الطائفي الذي يمارس الخصخصة في كل شيء بدءاً من الوظائف السياسية والإدارية في الدولة، وحتى العقود الخدمية. والحقيقة أن هناك فراغاً في النظام السياسي اللبناني منذ أن عطلت بعض الأحزاب السياسية عملية انتخاب رئيسٍ للجمهورية دام أكثر من عامين، وتم فرض حالة شلل للمجلس النيابي، وقد حاول ممثلو هذه الأحزاب تعطيل عمل الحكومة أيضاً، إلا أن رئيسها نجح في اتخاذ قرارات صعبة بالأغلبية، حسب نص الدستور، وليس بالإجماع حسبما تطالب به الأحزاب السياسية المعارضة. وتحاول بعض القوى السياسية اللبنانية القفز فوق الاحتجاجات الراهنة مطالبة بإلغاء «اتفاق الطائف»، والدعوة لمؤتمر تأسيسي جديد، في محاولة منها للانقضاض على ما تبقى من استقلال للحكومة اللبنانية، والاستحواذ على مفاصل السلطة فيها. ويعتقد بعض اللبنانيين أن مقاليد الحل في بلادهم يجب أن تأتي من الخارج، سوءاً من عواصم عربية، أو إقليمية نافذة، والحقيقة أن هذا هروب من واقع المشكلة اللبنانية، فاللبنانيون وحدهم قادرون على إيجاد حلول للأزمات السياسية التي تعصف ببلادهم، وعليهم فقط أن يضعوا مصلحة لبنان فوق المصالح الفردية والطائفية التي تستحوذ على اهتماماتهم، وتسيرّ مصالحهم الشخصية. ولبنان، البلد الجميل، مثل بلاد الرافدين، لا يستحق أن تتلاعب بمصيره الطبقة السياسية، بل يجب أن ترى أن وجودها في سدة السلطة هو خدمة لشعوب تريد أن تحصل على حياة أفضل. ----------- أستاذ العلوم السياسية- جامعة الملك سعود