منذ أن عقد الاتفاق النووي الأخير بين مجموعة 5+1 وإيران، تقاطر وزراء خارجية دول أوروبية مهمة، الواحد منهم تلو الآخر على طهران، وآخرهم فيليب هاموند وزير الخارجية البريطاني، والذي سبقه في ذلك لوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي، ثم نائب المستشارة الألمانية سيجمار جابرييل، وبعدهم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني.. والحبل على الجرار، في ظاهرة سياسية محيرة حدث فيها انقلاب ملحوظ في مواقف دول الغرب تجاه إيران التي استمرت العداوة معها منذ قيام ثورة الخميني عام 1979. فهل يعني ذلك أن الاتفاق النووي أحدث خللاً في البوصلة الغربية، قد تكون له تداعياته الخطيرة على أمن دول الخليج العربي والأمن العالمي بشكل عام؟ إن ما حدث من اتفاق بين مجموعة 5 + 1 (الأعضاء الخمس الدائمون في مجلس الأمن الدولي وألمانيا)، أتى في سياق البحث عن حلول لمشكلة البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل. ورغم أن الاتفاق تم الترحيب به من قبل العديد من الأطراف الدولية حول العالم، بما في ذلك دول الخليج العربي، فإنه من المتوقع أن يمر بعقبات وعراقيل بين فترة وأخرى عند البدء في تنفيذ تفاصيل بنوده، فالشيطان يكمن في التفاصيل كما يقولون، لكن على ما يبدو فإن الأطراف المشاركة في الاتفاق عازمة على التوصل إلى نتائج مستقبلية إيجابية بشأنه، وربما تشكل الزيارات التي أشرنا إليها والغزل الذي يبديه المسؤولون الإيرانيون، دليلاً على مثل هذه النوايا المستقبلية. وعلى الجانب الآخر من المسألة، لو حدث ذلك فستكون له تداعيات خطيرة على مصالح دول مجلس التعاون الخليجي ومصالح العديد من دول العالم الأخرى. والتطورات الحاصلة ستكون لها تبعات بعيدة المدى على الأطراف كافة، ولن يبقى طرف واحد بعيداً عن تلك التأثيرات، فدول المجلس قد تتأثر من النواحي الأمنية، والدول الصناعية ستتأثر بسبب اعتماد العديد منها على نفط الخليج العربي ووجود مصالح لها في استقرار أسعاره وتدفقاته، ودول الغرب ستقوم بالتقليل من التزاماتها الخاصة بالأمن رغم التطمينات التي تطلقها لدول المنطقة بهذا الشأن. خلفيات المواقف الجديدة انتخاب حسن روحاني رئيساً لجمهورية إيران الإسلامية أعطى دول الغرب فرصة جديدة لإعادة التفكير في سياساتها تجاه إيران، وبغض النظر عن مقولات الواقعية والمصداقية السياسية ومقولات «الريل بوليتيك» التي أطلقها العديد من الساسة الغربيين منذ ذلك الوقت، خاصة في الإدارة الأميركية الحالية، فإن قدراً كبيراً من التشكك يساورني حول هذه المسألة. أولاً؛ إن التاريخ السياسي والدبلوماسي المر بين دول الغرب وإيران يوضح أن كلا الطرفين متشكك جداً تجاه نوايا وبواعث وقدرات الطرف الآخر، فتصيد الولايات المتحدة السابق للعثور على «معتدلين» من نوع ما داخل القيادة الإيرانية، انتهى دائماً إلى الفشل وأحرج واشنطن وقلل من مصداقيتها في أوساط حلفائها، ومنهم دول المجلس، علاوة على شريكها الاستراتيجي إسرائيل. ويقابل ذلك أن الولايات المتحدة هي «الشيطان الأكبر» لدى غلاة المتشددين الإيرانيين. ثانياً؛ لم تتمكن دول الغرب من رؤية تصرفات حميدة من قبل غلاة التشدد والتطرف في إيران تجاه مصالحها منذ قيام الثورة، وكانوا في خلاف دائم بعضهم مع بعض حول كيفية التعامل مع إيران. وربما من وجهة نظرهم أن الاتفاق النووي الحالي أمر يدفع باتجاه التقليل من سرعة البرنامج النووي الإيراني، وتجميده مؤقتاً، ربما لعشر أو خمس عشرة سنة قادمة، لكنه لن ينهيه تماماً على غرار ما تم بالنسبة لبرنامج العراق وليبيا النوويين. ويضاف إلى ذلك أن حوارات الأوروبيين والغربيين السابقة، مع الإيرانيين، وبشكل عام، كانت أقل فاعلية، وربما أكثر إثارة للتشاؤم والسخرية، ولعلهم تعرضوا كثيراً للإحراج السياسي في بعض المواقف، ولنوع من «التقية» والخداع في مواقف أخرى، ما جعلهم يتراجعون عن سياساتهم المزمع اتخاذها. فما الذي حدث هذه المرة؟ وهل تغير الساسة الإيرانيون فجأة دون سابق إنذار؟ ثالثاً؛ الاتفاق النووي الحالي بالنسبة للإيرانيين هو «اتفاق ضرورة» للخروج من المآزق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، الداخلية التي تعيشها بلادهم حالياً، ويهدفون من ورائه إلى رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، خاصة فيما يتعلق بالحظر النفطي المفروض، والإفراج عن الأموال المحتجزة لدى الغرب، وهي بالمليارات، ورفع القيود المفروضة على التعاملات المالية والتجارية مع طهران، فالنفط وحده يشكل حوالي 85 بالمائة من المداخيل التي تمول ميزانية الدولة الإيرانية. رابعاً؛ ما نعرفه عن إيران حالياً هو أنها تختلف كثيراً عن ما كانت عليه في السنوات الأولى للثورة، فهي الآن أضعف. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفقاً لطروحات قادة الثورة الأوائل عند قيامها، هي نظام يتبنى المبادئ الجمهورية والمشاركة الجماهيرية الواسعة في تفسيرات محددة للإسلام من شأنها إضفاء هالة خاصة على حكم رجال الدين ومنحهم ميزات غير محدودة، والحد من نطاق ممارسة السياسات خارج نطاق ما يؤطر له دستور الجمهورية ومسارها السياسي لانتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية بالإضافة إلى إعطائه وضعاً مميزاً للمرشد الأعلى ولمجلس الأوصياء الذين يُعتقد بأنهم يحمون إرادة الخالق ويصونون مصالح رجال الدين الموالين للنظام وحلفائه.. من هذه الخيوط السياسية والدينية المختلفة والمتعارضة تنسج النخبة السياسية الإيرانية تعريفات لمقولة الجمهورية الإسلامية تتناقض بعضها مع بعض؛ فالمحافظون المتشددون يؤيدون السلطة المطلقة للمرشد الأعلى والمؤسسات غير القابلة للمساءلة التي لها علاقة به، في الوقت الذي يسعى فيه الإصلاحيون والمعتدلون إلى أدوار أكثر اتساعاً للمؤسسات الجمهورية. والواقع أن الحديث يطول حول تفسير وتحليل مثل هذه الأوضاع، الأمر الذي قد يخرجنا حالياً عن سياق المسألة الأساسية التي نتحدث عنها. والمهم في الأمر هو القول بأنه في الوقت الذي نظر فيه الإيرانيون إلى الثورة كوسيلة لتحرير إيران واقتصادها من السيطرة الأجنبية، فإن ممارسات النخب التي تعاقبت على الحكم منذ عام 1979 لم تحظَ لديهم بنفس الاحترام، وقد اتضح حتى الآن بأن الشعارات الثورية فشلت في تحقيق الرفاهية والحرية والأمن والطمأنينة والوئام للشعب الإيراني، سواء مع نفسه أو مع البيئة العالمية. خامساً؛ ينطلق الغربيون في اتفاقهم مع إيران بهذه الطريقة المتعجلة والسريعة حول برنامجها النووي، من أسباب تتعلق ربما بقلقهم الشديد من الممارسات الإيرانية المخيفة في العديد من الأحيان، خاصة السعي الحثيث نحو امتلاك الأسلحة النووية وتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 20 بالمائة، وزيادة دعمها للإرهاب حول العالم، وجهود إيران المتواصلة لإفشال عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. وفي هذا الصدد نعتقد بأن على الإيرانيين أن يفهموا تلك الحقيقة ويعوها جيداً في مسارات تطبيق البنود المتفق عليها في الاتفاق النووي، وربما يكون الإخلال بذلك مدخلاً لأمور أكثر خطورة على إيران مستقبلاً. التداعيات على دول «التعاون» إن اعتراف الإدارة الأميركية الحالية بمحدودية قدرة الولايات المتحدة على التدخل للتخلص من البرنامج النووي الإيراني عن طريق القوة، ومن ثم إدراك الدول الكبرى جميعها ذلك، وبالتالي عجزها عن حفظ أمن المنطقة عبر منع إيران من امتلاك السلاح النووي.. هو السبب العقلاني الأصلي الذي يقف وراء مبادرتها بالسير في اتجاه التفاوض على الاتفاق النووي. إن هذه السياسة الخاصة بالتخفيف من حدة الموقف، وبالتالي التخفيض من كلفة معالجته مادياً وبشرياً، والضلوع الانتقائي في طريقة حله، هي التي قادت مجموعة «5 + 1» في هذا الاتجاه. لكن دول مجلس التعاون الخليجي تشعر الآن بقلق مما يحدث لأنه لم يتم إخطارها مسبقاً بتفاصيل الموقف، ولم يتم إشراكها فيه، وهي طرف أصيل في حفظ أمن المنطقة وحليف لدول الغرب. ومعلوم أنه منذ قيام الثورة في إيران ومواقفها العدائية لدول الغرب، قامت دول الغرب ببناء صداقات وتأسيس مصالح استراتيجية مع دول التعاون نتج عنها تحالف ترتب عليه تدفق سلس للنفط الخليجي إلى أسواق العالم كافة وبالكميات المطلوبة وبأسعار معقولة، وبيع كميات ضخمة من الأسلحة المتطورة لدول التعاون، وترتيبات خاصة للمسائل التقنية والفنية والتدريب والمناورات والتمارين العسكرية المشتركة.. والتي أسست لشراكات مع أكبر دول الغرب، وبالتالي فقد كان ذلك يعني تصنيف تلك الدول باعتبارها تقف إلى جانب دول المجلس في مواجهة إيران. وما تخشاه دول المجلس الآن هو أنه لو سار الاتفاق النووي وتنفيذ بنوده إلى منتهاها المرسوم لها فقد يترتب على ذلك تحول الموقف الغربي كلياً، خاصة الولايات المتحدة التي يعرف عنها سرعة تبديل المواقف والتحالفات، نحو إيران، مما قد ينتج عنه تراجع في التزاماتها تجاه دول المجلس من النواحي الأمنية، وتركها وحيدة في مواجهة تطلعات التوسع والهيمنة الإيرانية. هذا التحول لو حدث سيجبر دول المجلس على البحث عن وسائل لتأمين أمنها ذاتياً أو اللجوء إلى أطراف خارجية أخرى. ومن المحتمل أن تكون كل الخيارات مكلفة، فدول المجلس ذات إمكانيات ذاتية محدودة لتأمين أمنها الذاتي، بنفسها في حال زوال المظلة الأمنية الغربية القائمة حالياً، ولا يوجد أمامها بديل خارجي جاهز يعتد به لكي يحل محل تلك المظلة. أما المشكلة أمام دول الغرب فستبقى قائمة، وهي كيف يمكنها حماية مصالحها في المنطقة دون أن تكون في تحالف قوي ومستمر تقبله دول المجلس، خاصة إذا ما تعرضت الأخيرة للمخاطر أياً كان مصدرها. والواقع أن دول المجلس تعلم بأنه لا توجد صيغة بسيطة لحل هذه المعضلة، ما يؤجج من قلقها وشكوكها في إمكانية تبديل دول الغرب لمواقفها وتحالفاتها في صالح إيران. وهنا فإن العوائق السياسية أمام تحركات دول الغرب، بالإضافة إلى الاعتراف الصريح بمحدودية القوة الغربية تقيد بقوة تحركات دول الغرب الدبلوماسية. لذلك فإن دول المجلس أبدت مواقفها للولايات المتحدة موضحةً أن عدم القدرة على التحكم بالأحداث لا ينبغي أن يكون عذراً للتخلص من المسؤولية والالتزامات المتفق عليها، فالمصالح الغربية في المنطقة ليس من السهل حمايتها حتى لو اعتقد الغربيون أن إيران يمكنها لعب هذا الدور، لأن الطامة الكبرى هي أن إيران ذاتها تشكل خطراً على تلك المصالح على المدى المتوسط والبعيد، دع عنك جانباً خطر العديد من المتربصين الآخرين بتلك المصالح من خارج المنطقة. لذلك فإن دول المجلس تعتقد، وهي محقة في ذلك، أن هذا المتطلب المركب ليس من السهل تحقيقه، وعليه فإن دول المجلس لها الحق في المطالبة بسياسات متماسكة وصريحة تقلل من ضبابية الموقف. فبالنسبة لأمن دول المجلس وتدفق نفط الخليج العربي، ورغم حديث الإدارة الأميركية الحالية عن «باسيفيكيتها»، واعتقاد دول الغرب بأنها وجدت لنفسها بدائل في النفط الصخري، أو في أماكن أخرى غير الخليج العربي.. لا توجد مصادر بديلة جاهزة وفورية ورخيصة الثمن تعوض النفط الخليجي، أو وسائل راديكالية لترشيد استهلاكه، وسيبقى العالم معتمداً على تدفقه لفترة طويلة في المستقبل، وذلك الاعتماد سيزيد ولن ينقص. وبالإضافة إلى ذلك تحتاج مواقف دول المجلس وسياساتها تجاه إيران إلى ردود على التطورات الحاصلة حالياً، لكن كيف يمكنها ذلك؟ ففي الماضي استخدمت دول المجلس الوسائل المتاحة أمامها للضغط على إيران من خلال حلفائها في المجتمع الدولي ودعم إجراءاتهم ومواقفهم في هذا الاتجاه لتحقيق أهدافها في مواجهة إيران، لكن الآن ومع وجود التوجهات الغربية الجديدة نحو إيران وعقد اتفاق معها حول برنامجها النووي، توجد حاجة إلى استخدام مركب أو خليط أكثر وضوحاً من الضغوط ووسائل القوة الناعمة للتعامل مع إيران. والمهم في الأمر هنا هو أن الأوضاع الإيرانية المستجدة بعد وصول حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية وعقد الاتفاق النووي، ومحاولات الرئيس الجديد والفريق الذي يعمل معه الانفتاح على دول المجلس أدت إلى تغيير ملحوظ في قواعد اللعبة السياسية. والحقيقة أنه مع وجود التوجه الأميركي والغربي نحو إيران، ظهرت عوامل جديدة لم تكن متوقعة أدت إلى تعقيد حسابات دول المجلس بطرق ستؤدي إلى أن يتطلب الأمر تحديث توجهاتها نحو إيران، بمعنى أن تقوم بتجنب المخاطر واغتنام الفرص التي توجد بسبب هذه الظروف الجديدة. وعليه فإن دول المجلس تحتاج الآن إلى حشد درجة من الكفاءة السياسية والدبلوماسية المتناهية، التي تستلزمها المواقف الجديدة التي تظهر أمامها، فدول المجلس ليس بوسعها الاستمرار في الاعتماد على سياسات ترسمها دول أخرى انطلاقاً من مصالحها الذاتية. دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت ذات أهمية اقتصادية وسياسية كبرى في عالم اليوم لا يمكن تجاهلها، لأنها قائمة على أسس ومعطيات حقيقية من النمو والتقدم والبناء الخلاق. ونظراً إلى هذه الأهمية الكبرى، فإنها تعتقد، ولها كل الحق في ذلك، بأن على الغرب أن ينتبه جيداً إلى علاقاته بها؛ وأن لا تسوقه قضية منفردة واحدة، كملف إيران النووي، في سياساته الخارجية نحو الخليج العربي إلى متاهات تضل في وسطها الطريق عن جوهر المكان أو الجهة التي تكمن فيه مصالحه الحقيقية. لذلك يتوجب على دول الغرب أن تضع لنفسها ميثاقاً تلتزم من خلاله بعدم التخلي عن مصالحها لدى دول مجلس التعاون، اعترافاً منها بأن إيران وحدها لن تكون قادرة على حماية تلك المصالح وتأمينها. أيديولوجيا التسلح النووي السياسة الخارجية الإيرانية في جوانبها التطبيقية موضوع خصب للاختلاف بين ساسة الدول، وهي أكثر إثارة للاختلاف في جوانبها التنظيرية بين الأكاديميين والمراقبين والمحللين السياسيين، فهي تنطلق من منطلقات أيديولوجية ترى النخبة السياسية من خلالها بأن الثورة التي قامت في إيران جذابة ولها وقعها في عالم اليوم. هذا الاعتقاد لا يمكن تقبله على إطلاقه ولم تعد للقائلين به آمال تذكر في إقامة «الإمبراطورية الإسلامية الجديدة»، بمعنى العمل على تصدير الثورة إلى الجيران أولاً، ثم العالم العربي، فالعالم الإسلامي، وهلم جرا، أصبح حلماً من الماضي. ورغم ذلك ترفض النخبة السياسية الإيرانية الدينية الحدود الوطنية التي وضعها الاستعمار الغربي، وهي تدفع بفكرة أن المسلمين يجب أن تكون لهم علاقة بعضهم ببعض فيما وراء الحدود الوطنية التي يعيشون ضمنها والجنسيات التي ينتمون إليها والأعراق والقوميات التي ينحدرون منها.. وعوضاً عن ذلك عليهم السعي نحو تأسيس «حزب إسلامي» انتقالي. ولأن إيران دولة إسلامية مؤسسة، فإنها تملك السبق والخبرة الكافية لقيادة الحركة الجديدة، ولصياغة الأفكار المطلوبة للتغير البنائي والتطبيقي. ومن وجهة نظر سيكولوجية يرى الإيرانيون، خاصة النخبة منهم، «الجمهورية الإسلامية» التي يقيمونها كلاعب ذي ميزات فريدة ونفوذ واسع على صعيد الشؤون الدولية. وتقول النخبة الإيرانية بأن بلادها رمز المقاومة وحامل لواء الإسلام، وكلما قويت واستمرت في نهجها تسارعت في الظهور ثورات أخرى مشابهة. واعتماداً على هذا الاعتقاد، فإن واحداً من الافتراضات الطليعية للسياسة الخارجية الإيرانية هو تصوير إيران بأنها مركز الحركات الإسلامية وحركات المقاومة الوطنية في العالم النامي، والتي تحتاج إلى أنواع القوة والسلاح لردع أعدائها، بما في ذلك السلاح النووي. إن ذلك الطرح يجعلنا نشير إلى وجود مدخلات سيكولوجية عديدة في السياسة الخارجية الإيرانية الحالية. ولعل أهم سبب في ذلك هو مقدار الحقائق الصعبة أمام متخذ القرار الإيراني في مجال السياسة الخارجية. ودون الاستغراب من أن دروس التاريخ تخدم كمصدر مهم لمدخلات السياسة الخارجية، يستخدم القادة والرسميون الإيرانيون هالات تاريخية لتأييد ودعم سياساتهم، وتاريخ إيران خلال القرنين الماضيين وتجاربها المرة مع بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة، تخدم كتذكيرات قوية القول بأن إيران يتوجب عليها اتخاذ سياسة خارجية حذرة، لكنها قائمة على فرضية إمكانية استخدام القوة العسكرية التي تحتاج إلى رادع نووي. لقد شكل كل من النفوذ الخارجي العميق في الاقتصاد الوطني والثقافة الاجتماعية السلوك الخارجي الإيراني تجاه النظام العالمي خلال القرن العشرين، خاصة تجاه القوى العظمى والكبرى، لذلك فإن البحث عن هوية إيرانية أصلية يسيطر على السياسة الخارجية وعلى الطروحات السياسية للنخبة الدينية السياسية الإيرنية. وتعتقد هذه النخبة أن تبعية العالم الإسلامي للقوى الكبرى تجرده من أصالته، ولكي يعود إلى أصالته يحتاج قادته إلى النظر نحو الأمة عوضاً عن التداخل مع الغرب. والأصالة التي تتحدث عنها النخبة الإيرانية تقوم على مبادئ من الأيديولوجية الإسلامية التي يرون أنه يمكن تحقيقها عن طريق الدمج الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي بين الدول الإسلامية، وهذا يعني بالتأكيد أن المقولة الإيرانية للأصالة ليست ذات صلة بالبنية الداخلية لإيران، بل تمتد إلى العالم الإسلامي برمته، بمعنى تصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج ولو كان ذلك بالقوة وامتلاك السلاح النووي كإحدى الوسائل. وهذا يعني أنه لو تركت إيران تسير في برامجها النووية والتسليحية، خاصة تخصيب اليورانيوم والبلوتونيوم في الداخل، فإنها ستتمكن من بناء ترسانتها النووية في آخر المطاف، وبالتأكيد فإن هذه الأفكار والتطلعات يجب أن تؤخذ بحذر شديد. المسؤولون الإيرانيون أنفسهم يشيرون إلى الرغبة في السير بخطى حثيثة نحو إنتاج السلاح النووي والصواريخ التي يمكنها حملها إلى أهدافها. لذلك، فإن خطراً حقيقياً يتشكل في إيران ستكون له نتائجه الخطيرة على دول الخليج العربي والعالم العربي وربما إلى أبعد من ذلك كثيراً، ويحتاج العالم معه إلى سياسة عملية واضحة لكي يتعامل معه، ومن هذا المنطلق نطرح سؤالاً مفاده: لماذا تريد إيران امتلاك السلاح النووي؟ ولعل الإجابة تكون كالتالي: يقول المسؤولون الإيرانيون إن بلادهم تريد استخدام السلاح النووي كأداة للردع بسبب وجودها ضمن بيئة إقليمية قاسية، فهي لها جوار جغرافي ممتد تشكل أطراف عديدة منه خطراً عليها. وإيران تعتقد بأن ما يحدث في العراق وأفغانستان، وقرب باكستان المسلحة نووياً من حدودها، ووجود إسرائيل من وراء الأفق، ووجود القوات الأجنبية على امتداد المنطقة جميعها.. مصادر خطر ممكن وحقيقي عليها. ولعل المخططين الاستراتيجيين الإيرانيين، وأصحاب القرار يعقدون مقارنة بين ما يحدث في كوريا الشمالية وما حدث في العراق وينطلقون منها في إصرارهم على تسليح بلادهم نووياً. فكوريا الشمالية التي تمتلك أسلحة نووية وقدرات صاروخية لم تهاجمها الولايات المتحدة ولم تسقط نظامها، في حين أن العراق الذي لم يكن مسلحاً نووياً أو كيميائياً تمت مهاجمته وإسقاط نظام حكمه. والسبب الآخر هو شعارات تصدير الثورة، والشعور الإيراني بالعظمة والفخر كأمة ذات حضارة غابرة، فالنظام الحاكم ومعه العديد من الإيرانيين يعتقدون بأن تجربة بلادهم الثورية وتاريخها ومواردها وكثافتها السكانية تؤهلها لتصدير ثورتها إلى الخارج ولعب دور القوة الكبرى العالمية والمهيمنة إقليمياً. ويعتقد الإيرانيون بأن امتلاك بلادهم السلاح النووي سيعطيها وضعاً تحوزه القليل من الأمم وسيمكنها من الدخول مباشرة إلى نادي «عظماء العالم»، وسيجبر الدول الأخرى على إيلاء المزيد من الاهتمام لتطلعات إيران ورغباتها التوسعية المرتبطة بالهيمنة الإقليمية. وفوق كل ذلك تأتي الرغبة العارمة في تصدير الثورة، فوفقاً لتعليمات مرشد الثورة السابق الخميني، وما تتم ملاحظته من ممارسات منذ عام 1979 وحتى الآن، تحاول إيران تحقيق حلمها هذا من خلال السعي لإسقاط عدد من الحكومات العربية، أو إثارة القلاقل السياسية تمهيداً لإسقاطها ومساعدة العناصر التي يمكن أن تحقق ذلك أو تسهم فيه. هذه الأعمال تثير عداوات الدول المعنية. وإلى ذلك فالمتشددون يعتبرون هدف تصدير الثورة مرتبطاً بهدف شن الحرب ضد أعداء الإسلام، ما يضيف حافزاً قوياً إلى بواعث الرغبة في امتلاك السلاح النووي. وإزاء هذه الأوضاع الخطيرة، فإن ما يقوم به العالم حتى الآن هو تحذير إيران من أنها ستتعرض لعواقب وخيمة إذا لم توقف برامجها النووية، لكن قادة إيران ينظرون إلى تلك التحذيرات كجعجعة بلا طحن، وهذا يعني أن العالم حائر فيما يمكن أن يتخذه من إجراءات في مواجهة التسلح النووي الإيراني، وخياراته كانت صعبة في هذا المجال إلى أن تم التوصل إلى الاتفاق الأخير هذا العام الذي يؤجل المسألة بعض الشيء لكنه لا ينهي البرنامج من جذوره. تطمينات الغرب.. هل تكفي؟ إن الإشارات الواردة من دول الغرب تأتي في سياق تطمين دول المجلس إلى أن الاتفاق مع إيران لن يؤثر على مواقف الغرب والتزاماته تجاه دول التعاون، وذلك من زاوية المحافظة على أمن هذه الدول من أي تهديد خارجي تتعرض له، لكن قياس هذه التطمينات والثقة بها يبقى أمراً معيارياً لا يمكن الارتكان إليه، فأولاً، قامت العلاقات بين دول المجلس ودول الغرب على المصالح الاقتصادية (خاصة النفط)، وهو أساس لا يزال قائماً، ورغم وجود تحفظ حول تقديرات العرض والطلب في مجال النفط بين هذه الأطراف، فإن الإثبات المتوفر يوضح بأن النفط الذاهب من الخليج العربي سيصبح أكثر أهمية لدول الغرب وحلفائها وللعالم أجمع خلال السنوات القادمة، وستستمر دول المجلس في لعب أدوار متميزة من حيث قدرتها على زيادة الإنتاج ومعادلة الأسعار وثباتها وفق الأزمات. وثانياً، العلاقة بين الطرفين قائمة على المصالح الاستراتيجية المشتركة، فدول المجلس معتدلة في طروحاتها السياسية في مواجهة النموذج الإيراني المتطرف. وتعتبر دول المجلس قوة هامة للمحافظة على الاستقرار السياسي الإقليمي وإحراز تقدم باتجاه عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، على عكس إيران التي تغذي التطرف وتدعم الإرهاب، لذلك فالعلاقة بين دول المجلس ودول الغرب تفصح عن الاستمرارية والعمق على الصُّعد الاقتصادية والتجارية والثقافية، وهي مرتكزات يمكن أن تفضي إلى بناء أسس أكثر ثباتاً لشراكات وصداقات دائمة ومثمرة. ثالثاً، ونتيجة لذلك الاتفاق، ربما يتعرض التكتل الذي استمر طويلاً بين دول المجلس والغرب، منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، ربما يتعرض الآن للاهتزاز والتشكك من جانب دول المجلس بسبب الممارسات الغربية غير المقنعة، وربما المضللة. إن الوجود العسكري الغربي في المنطقة يبدو ضرورياً في المستقبل المنظور، واحتمال خروجه منها ينبغي أن يتم النظر فيه على أساس من الكلفة السياسية، والسياسات الداخلية لدول المجلس، والسياسة الخارجية الإيرانية القائمة والمتوقعة. فبعد خروج العراق من دائرة المخاطر التي تهدد دول المجلس، تبقى إيران هي الدولة الأكثر تهديداً للمصالح العالمية ولأمن دول المجلس على الإطلاق. رابعاً، إن التحالف بين دول المجلس ودول الغرب أقل عرضة وحساسية للتأثر بالمقولات الناشئة عن عملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي، مقارنة باتفاق دول الغرب مع إيران حول برنامجها النووي. ومن السياسات التي تنتهجها دول الغرب في تعاملها مع دول المجلس من زاوية توجهات الأخيرة نحو إيران. لذلك، فمن الأهمية بمكان قيام دول الغرب بالعمل معاً وفق وسائل أكثر جدية مع دول المجلس عند اتخاذ أية سياسات تجاه إيران في المرحلة القادمة، فإبعاد دول المجلس وعدم إطلاعها على تلك السياسات والقرارات لا يخدم مصالح الطرفين. خامساً، على دول الغرب أن تكون أكثر حساسية واهتماماً لما يمكن أن تؤدي إليه اتفاقاتها مع إيران دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح الحيوية لدول مجلس التعاون وقضاياها العالقة حالياً مع إيران، كملف البحرين والملف السوري وملف جزر الإمارات الثلاث المحتلة، والأهداف التشغيلية لمثل هذا الاهتمام يجب أن تشمل تحليلاً وتقييماً أفضل للمعلومات التي تتخذ على أساسها مثل تلك السياسات، بمعنى أن على دول الغرب أن تكون حريصة وواعية بما يمكن أن يمارسه تجاههم الإيرانيون من خداع، فإذا ما وقعوا ضحية لمثل هذا الخداع، فإنهم عندها سيكونون قد خسروا ثقة دول المجلس بسياساتهم؛ فقدرة الإيرانيين على المناورة وممارسة مبدأ التقية شأن ثقافي يجهله الغربيون كثيراً. سادساً، وأخيراً بغض النظر عن طبيعة تدفقات السياسات الغربية الحالية تجاه إيران، والاتفاق معها حول ملفها النووي، فإن لجوءها إلى سياسات أقل إدراكاً لما يحدث، قائمة على قراءة خاطئة للنوايا الغربية تجاهها، قد تقودها بشكل غير واقعي إلى استنتاج مفاده أن الغرب مستعد لقبول التصرفات الإيرانية الخاطئة والسماح بها مقابل مزايا تجارية واقتصادية، أو أن الغرب بات عاجزاً أو متعباً الآن عن لعب دور رجل الأمن في المنطقة، أو أنه فقد التزامه وإصراره لحماية مصالحه الاستراتيجية في المنطقة، وهي أمور تقع خارج نطاق الحسابات الغربية، فلغة المصالح هي لغة الغرب الوحيدة. وفي مراحل سابقة وقبل اكتشاف الجوانب السرية الخاصة بإنتاج إيران للأسلحة النووية، كانت إشارات المصالح التي تشكل خطوطاً حمراء هي الرسائل والإشارات التي يبعثها الغربيون إلى إيران في التعامل معها.