شهدت العقود الماضية من عمر الحياة الثقافية للعالم العربي ظهور فريق من الكتاب تعود رؤية الدين، وبالأخص الدين الإسلامي، من منظور إلحادي احتنكه من الفلسفات الغربية، الماركسية والليبرالية، التي اعتنقها وراح يروج لها ويحكم على الدين من خلالها، دون أن يكلف نفسه عناء البحث والاطلاع الدقيق على حقيقة الإسلام وفلسفته في الحياة والمجتمع والوجود. ولو أخضعنا أفكار هذا الفريق للتشخيص وقمنا بتحليل مكنون نتاجاته، لوجدنا أن أهواءً شخصية تحرك أغلبهم ولا تترك مكاناً للدين في نفسه غير الصور المشوهة التي نراها في كتاباتهم وأحاديثهم، خاصة حين يزعمون أن العقل المتحرر من قيود الدين وضوابطه هو وحده القادر على الإنتاج والإبداع! تحت هذا الشعار أعطوا لأنفسهم الحق في كتابة ما يهوون، حتى وإن تعارض مع معايير الموضوعية وقواعد البحث العلمي.. فتسربت أفكارهم في الفضاء الثقافي، محاولة تشويه الإسلام والتشكيك فيه، ما جعل بعض المتأثرين بهم يعتنقون الإلحاد وتزول من حياتهم كل آثار العبودية لله عز وجل والإيمان باليوم الآخر، وينظرون للحياة من منظور الفلسفة المادية لمفكري الغرب مثل هيجل وماركس وداروين وفرويد.. ونظرياتهم في التاريخ والصراع الاجتماعي والتطور التطبيعي وطبيعة النفس البشرية.. مما فتح المجال للصراع الفكري في أرجاء العالم العربي. ونذكر هنا تلك المعركة التي شهدها عام 1936 بين الدكتور زكي مبارك والدكتور أحمد زكي أبو شادي إثر مقال كتبه الأخير هاجم فيه الإسلام والأزهر الشريف وعلماءه، بل دعا إلى هدم الأزهر. ورغم صداقة زكي مبارك لأبوشادي، فقد عارض أفكار مقاله ورد عليها بقوة. واستمرت المناوشات الفكرية، حتى وجدنا من يتبنى آراء المبشرين والمستشرقين الذين يشككون في الدين ويشوهون تاريخ الإسلام، بل وجدنا من يطالب بترك القرآن والسنة واستبدالهما بنظريات وأفكار ماتت في الغرب قبل أن تجد من يحاول إحيائها في المجتمعات العربية، بداعي معاداته للدين ولإثارة صراعات فكرية عقيمة هي آخر ما تحتاجه هذه المجتمعات. ومنذ فترة قرأت بإحدى الصحف العربية حديثاً لأحد الباحثين أراده فرصة لمهاجمة الإسلام والتشهير بعلماء المسلمين، وقدمت الصحيفة ذلك الباحث باعتباره المفكر الكبير صاحب العلم الغزير وأفسحت له المجال ليطعن في الإسلام ويرميه بالجمود والتخلف! وكان للدكتور عبدالرحمن بدوي، رائد الوجودية في العالم العربي، وهي فلسفة إلحادية تعود إلى هايدجر وسارتر، إسهام كبير في بعض تلك المعارك الفكرية، لكنه عاد لعبّر عن خطورة النزعات الإلحادية على العقل العربي المسلم، عندما قال في حواره مع مجلة الحرس السعودي، وهو على فراش المرض: «لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس بالندم الشديد لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن. أشعر الآن أني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق لكي أعود من جديد مسلماً، حقاً إنني تبت إلى الله وندمت على ما فعلت وأنوي بعد شفائي أن أكون جندياً للفكر الإسلامي للدفاع عن الحضارة التي شادها الآباء والأجداد والتي سطعت على المشارق والمغارب لقرون وقرون.. أي عقل ناضج يفكر لا يثبت على حقيقة واحدة، لكنه يتساءل ويستفسر، ولهذا فأنا أعيش الآن مرحلة القرب من الله تعالى والتخلي عن كل ما كتبته سابقاً من آراء تتصادم مع العقيدة والشريعة ومع الأدب الملتزم بالحق والخير والجمال.. فقد هضمت تراثنا الإسلامي قراءة وتذوقاً وبحثاً وتحليلاً، وبدا لي أنه لم يتأت لأمة من الأمم مثل هذا الكم النفيس من العلم والأدب والفكر والفلسفة كما تأتي لأمة الضاد.. وأقول: إن العقل الأوروبي لم ينتج شيئاً يستحق الإشاءة والحفاوة مثلما فعل العقل العربي».