أتيح لي أن أطرح مجموعة من الأفكار المترابطة حول أنماط التغيير السياسي في مجتمعات ما بعد الثورات في ندوة علمية مهمة نظمها الخبير السياسي د. يسري العزباوي عن المجتمع المدني والتحول الديمقراطي، والواقع أنني بعد ثورة 25 يناير في مصر أصدرت كتاباً بعنوان «ثورة 25 يناير بين التحول الديمقراطي والثورة الشاملة» (القاهرة، الدار المصرية اللبنانية 2013) قام على أساس وجهة نظر شخصية لي مبناها أن حقبة التحول الديمقراطي قد انتهت نهائياً بقيام «الثورات» في بلاد «الربيع العربي». وقد قامت هذه الثورات لأنه في العالم العربي كانت هناك مقاومة عنيفة من بعض النظم الشمولية والسلطوية في هذا الانتقال الذي كان يعني بكل بساطة التنازل عن قسط كبير من الهيمنة السياسية على المجتمعات، بالإضافة إلى خسارة مزايا طبقية ومالية كبرى للنخب السياسية الحاكمة. ولكن - نظراً للتطورات التي لحقت بالعالم - وأهمها بزوغ المجتمع المدني العالمي - الذي يطالب كل النظم السياسية بالانتقال لقواعد الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان من ناحية والضغوط الشعبية العربية من جهة أخرى - اضطرت بعض النظم السلطوية العربية مثل النظام المصري في عهد مبارك للخضوع إلى ضغوط الخارج ومطالب الداخل، وتمثل هذا الخضوع في إجراء بعض التعديلات الشكلية في دساتيرها، كما حدث في مصر حيث تحول الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية إلى انتخابات تنافسية. غير أن مقاومة النظم السلطوية العربية وفي مقدمتها النظام التونسي في عهد بن علي والنظام المصري في عهد مبارك، أدى إلى انفجار الهبّات الجماهيرية التي تحولت من «معارضة» النظام إلى «الانشقاق» الواضح والصريح عنه سعياً وراء قلبه وتغييره بالكامل، ومن هنا قامت «الثورة التونسية» وتبعتها بأسابيع قليلة «الثورة المصرية». وفي تقديرنا - كما أكدت في عرضي الذي قدمته في الندوة - أنه بقيام هذه الثورات لا يجوز أن نتحدث عن التحول أو الانتقال الديمقراطي، لأن الثورة - بحسب التعريف - من شأنها أن تعيد بالكامل صياغة أدوار أطراف المعادلة السياسية، ونعني الدولة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني، والدليل التاريخي على ذلك أنه بقيام ثورة 23 يوليو 1952 التي بدأت بحركة عسكرية قام بها الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر وتحول إلى ثورة بعد تبنيها لمشروع العدالة الاجتماعية الذي صاغته القوى الوطنية المصرية قبل الثورة ذاتها، أعيدت صياغة دور الدولة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني بالكامل. تحولت الدولة من دولة شبه ليبرالية في ظل دستور 1923 إلى نموذج جديد تماماً هو «الدولة التنموية» التي تتولى إعادة صياغة المجتمع من خلال قوانين الإصلاح الزراعي لتحرير الفلاحين المصريين من ربقة النظام شبه الإقطاعي الذي كان سائداً، والاندفاع في التخطيط التنموي الشامل الذي ركز على التصنيع أساساً، وتشهد على ذلك الخطة الخمسية الأولى والخطة الخمسية الثانية. وفيما يتعلق بدور الأحزاب السياسية فقد رأت الثورة - بعد بروز سلبية ممارساتها في الفترة من 1950 حتى 1952 - وخصوصاً فشلها في حل «المشكلة الوطنية» التي تتعلق بإجلاء الإنجليز، و«المشكلة الاجتماعية» المتمثلة في الفجوة الطبقية الكبرى بين الأغنياء والفقراء ضرورة إلغائها بالكامل، واستعانت الثورة عنها بتنظيم سياسي واحد قام بدور الحزب الأوحد وتمثل أولاً في «الاتحاد القومي» ثم أصبح هو «الاتحاد الاشتراكي» بعد تبني الاشتراكية باعتبارها العقيدة السياسية للثورة. أما المجتمع المدني الذي كان مزدهراً إلى حد كبير قبل الثورة من حيث حرية التفكير والتعبير والتنظيم في ظل تعددية سياسية فقد ضيّق عليه الخناق، وأصبح «الخطاب الاشتراكي» دون غيره من الخطابات الليبرالية أو الإسلامية هو الأعلى صوتاً. وفي ضوء هذه التجربة التاريخية ذهبت إلى أن النظام السياسي الجديد الذي ينبثق من ثورة 30 يونيو يعيد في الواقع صياغة دور الدولة ويفسح الطريق واسعاً وعريضاً لعودة نموذج «الدولة التنموية» التي رسختها ثورة يوليو 1952، باعتبار أن مهمتها الرئيسية هي التنمية الشاملة من خلال القيام بمشروعات قومية كبرى، وقد بدأ الرئيس السيسي هذا العصر التنموي الجديد في مصر بمشروع «قناة السويس الجديدة» التي اعتمد فيها لأول مرة في تمويلها على الاكتتاب الشعبي الذي نجح نجاحاً ساحقاً، وعلى الإدارة الهندسية للقوات المسلحة في تنفيذه في عام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام كما كان مقدراً وتم ذلك على أعلى مستوى، وقد توج هذا المشروع القومي الكبير بافتتاح تاريخي حضره العديد من ملوك ورؤساء العالم.