الحقائق والإدراكات العمومية لا يتوازيان دوماً، وإن كان ما يحدث في غالبية الأحوال، هو أن الحقائق ترشح في نهاية المطاف في الوعي الجمعي، حتى وإن استلزم ذلك بعض الوقت. والآيديولوجية تؤدي إلى إبطاء هذه العملية بشكل دراماتيكي، وهو ما يجعل الناس يصدقون ما يريدون أن يصدقوه، بدلا من النظر إلى الحقائق المجردة. يتبدى ذلك بشكل جلي، إذا ما أخذنا على سبيل المثال خطاب السياسيين الأميركيين بشأن الهجرة. ففي مناظرة متلفزة أجريت في نطاق الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري مؤخراً، قال المرشح «دونالد ترامب» إن المكسيك ترسل «الأشخاص السيئين» إلى الولايات المتحدة. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يلمح فيها ترامب إلى أن المهاجرين المكسيكيين، يمكن أن يكونوا مجرمين، غير أن تأكيده الأخير يفوح بكراهية الأجانب، وسوف يروق بالتأكيد لأصحاب المشاعر العنصرية، لكنه زائف في الآن ذاته. ويرجع ذلك لثلاث حقائق يمكن بيانها كالتالي: الحقيقة الأولى هي أن المهاجرين بمن فيهم ذوو الأصول الأميركية اللاتينية «الهسبانيك»، لا يرتكبون الكثير من الجرائم كما يعتقد، بل إن نسبة من يتم سجنه منهم تقل عن الأميركيين الأصليين، وذلك وفقاً لتقرير «مركز سياسات الهجرة» عام 2007. وهناك تقارير ودراسات أخرى عديدة تؤكد ذلك، مما يعني أن ادعاءات ترامب وغيره من الساسة مناقضة للحقيقة. الحقيقة الثانية هي أنه ليس هناك تدفق كبير من المهاجرين غير المسجلين إلى داخل الولايات المتحدة حالياً، بل إن هذا العدد يتناقص على نحو مطرد، كما تثبت إحصائيات «معهد بيو للأبحاث». ففي عام 2014، وصل عدد المهاجرين 11.3 مليون من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة البالغ 318.9، أي ما نسبته 3.5? من ذلك العدد. يعني ذلك أن السجال الأميركي بشأن الهجرة برمته سجال في غير محله. فرغم أن السياسيين يضيعون وقتاً كثيراً في الجدل حول فكرة توفير مسار للمهاجرين غير المرخصين يتيح لهم الجنسية الأميركية في نهاية المطاف، ويتنازعون بشكل دائم حول «قانون دريم»، فإن تقلص أعداد المهاجرين غير المسجلين، جعل هذا الجانب من جوانب موضوع الهجرة أقل أهمية على نحو مطرد، خصوصاً عند مقارنته بالهجرة الشرعية. ورغم أن الهجرة الشرعية تمضي بشكل جيد عموماً، فإن القوانين الأميركية الحالية تستبعد الكثير من الأشخاص الراغبين في الهجرة إلى الولايات المتحدة، رغم حاجتها الماسة إليهم. لذلك فتوفير مسار للمهاجرين غير المسجلين (11.3 مليون نسمة) أمر مهم، لكن تقليص العوائق أمام الهجرة الشرعية أكثر أهمية. الحقيقة الثالثة هي أن مصادر الهجرة قد تغيرت في السنوات القليلة الماضية؛ فحتى عام 2008 كانت المكسيك تتصدر قائمة الدول المصدرة للمهاجرين للولايات المتحدة، أما الآن فقد تجاوزتها الهجرة القادمة من الدول الآسيوية. لقد انتهت فترة ازدهار المهاجرين الأميركيين اللاتين لتبدأ فترة ازدهار المهاجرين الآسيويين. وتترتب على ذلك تداعيات سياسية، إذ يعني في جوهره أن السجال حول أمن الحدود مع المكسيك قد غدا غير ذي صلة، وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى إصدار المزيد من البطاقات الخضراء للحفاظ على استمرار تدفق الهجرة إليها. لذلك كله، عندما تسمع في المرة القادمة سياسيين أميركيين يتجادلون حول الهجرة، عليك تذكر هذه الحقائق الثلاث: إن المهاجرين يلتزمون بالقوانين، وإن معظمهم يأتون بشكل قانوني، وإن غالبيتهم أتي من آسيا، وإن الولايات المتحدة مضطرة لاستقطاب المزيد منهم. نوح سميث: أستاذ المالية المساعد في جامعة «ستوني بروك» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوزسيرفس»