قبل 41 عاماً، ألقى جيمي كارتر، الذي كان آنذاك حاكماً لولاية جورجيا، خطاباً مرتجلاً قدّم فيه أوراق اعتماده كسياسي لديه الرغبة في قول الحقيقة، حتى لأصحاب المصالح من الأثرياء وذوي النفوذ. وهذا الخطاب، خصوصاً في أعقاب قرار المحكمة العليا «المواطنون المتحدون» الذي يرفع القيود عن النفقات السياسية المستقلة التي للشركات والاتحادات، قد لا يُسمع مرة أخرى في عالم السياسة الأميركية. وعلى ضوء إعلان كارتر الأخير عن إصابته بالسرطان، يستحق الأمر منا أن نفكر في الأسباب التي جعلت من هذا الرجل سياسياً مختلفاً عن الرؤساء الذين جاؤوا قبله وبعده. عندما ألقى كارتر خطابه بمناسبة «يوم القانون» الذي أقامته كلية الحقوق بجامعة جورجيا، احتفالاً بإنجازات طلابها في أحد أيام شهر مايو 1974، كان المتحدث الرئيسي في الاحتفال هو السيناتور إدوارد كينيدي. وبعد ساعتين من إلقاء كينيدي كلمته، قام كارتر بارتجال خطاب تضمن نقداً حاداً للعملية القانونية والتشريعية في الولايات المتحدة، قال فيه إن حسه بالعدالة مستمد من مصدرين؛ الأول هو «رينولد نابهر» وتفويضه الخاص بتأسيس العدالة في عالم مفعم بالخطيئة. والثاني هو المنظر المرموق «بوب ديلان» الذي قال كارتر إن عبارة سمعها منه، وهي «لن أعمل بعد الآن في مزرعة ماجي» هي التي وضعته على بداية طريق إدراك الأبعاد الحقيقية لمحنة الفقراء، خصوصاً العمال المقيمين في المزارع. في ذلك الخطاب عبّر كارتر،، استناداً إلى فهمه للدين المسيحي، عن تضامنه مع هؤلاء الذين يعيشون في الهوامش، وواجه مصالح المؤسسات والشركات، ودعم كينيدي الذي كان في حينه المترشح الرئيسي على قائمة الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية عام 1976. وأعرب كارتر عن أسفه لكون «الأقوياء والنافذين في المجتمع هم الذين يصيغون القوانين، وهم الذين يمتلكون نفوذاً قوياً على الهيئة التشريعية، وأن الوضع القائم يخدم مصالحهم». وأبدى ملاحظة مؤداها أن معظم نزلاء السجون يتكونون بشكل ساحق من الفقراء، وقال إنهم الوحيدون الذين يقضون مدد عقوباتهم كاملة. وأنهى كارتر ملاحظاته بإطلاق الفكرة الشعبوية التي كان يعكف بالفعل على بلورتها لاستخدامها في حملته الرئاسية، وهي أن أي أمل في المستقبل يكمن في «مزيج من الحكمة، والشجاعة، والالتزام، والقدرة على الفهم، وحسن الإدراك، من قبل الناس العاديين». ولفت خطاب كارتر اهتمام «هانتر طومسون»، محرر مجلة «رولنج ستونز» الشهير. ففي أثناء إلقاء الخطاب، لاحظ كارتر أن طومسون قد ترك القاعة لفترة قصيرة، وظن أنه ربما يكون قد خرج لبعض شأنه، لكن طومسون كان في الحقيقة قد هرع إلى موقف السيارات حيث صف سيارته لإحضار جهاز تسجيل، لالتقاط ما كان يعتقد أنه لحظة استثنائية.. لحظة جرؤ فيها سياسي أميركي على قول الحقيقة التي يحجم كثيرون من أهل السياسة عن التفوه بها. وفيما بعد كتب طومسون عن ذلك الخطاب: «لقد سمعت مئات الخطابات من مئات المرشحين والسياسيين، لكني لم أسمع قطعة متكاملة من البلاغة السياسية، كان لها تأثير بالغ على شخصي مثل تلك التي سمعتها من جيمي كارتر في الاحتفال بيوم القانون بجامعة جورجيا في ظهيرة ذلك السبت من شهر مايو 1974». هل يستطيع مرشح رئاسي إلقاء خطاب مماثل اليوم.. خطاب يتنصل فيه من الأقوياء والنافذين، ويتحدى مصالح الشركات الكبرى، ويسائل عدالة المنظومة الجنائية التي تميل بشكل فادح لمعاقبة الفقراء والتغاضي عن الفاسدين؟ لا أعتقد. ربما يعبر سيناتور فيرمونت «بيرني ساندرز»، الذي يصف نفسه بأنه اشتراكي ديمقراطي، عن بعض جوانب الموضوع الذي تطرق إليه كارتر، لكن الخبراء يقولون إن حظوظة الانتخابية متواضعة، مقارنة بحظوظ كارتر الذي نجح آنذاك في الوصول للبيت الأبيض. الأكثر من هذا أن الاهتمام الذي يلقاه «ساندرز»، والجمهور الذي يستمع إليه يظهران بجلاء كم أصبح أمراً من النادر بمكان، أن يستمع المرء في الخطاب السياسي الأميركي العام برمته إلى مرشح رئاسي لديه الطموح للتصدي للمصالح النافذة. عندما أصبح كارتر رئيساً، سعى بكل همة، وحقق في ذلك نجاحاً متفاوتاً، من أجل العمل وفقاً لمبادئ العدل والمساواة، التي عبّر عنها في خطابه المذكور. وبعد أن أنهى فترة رئاسته، وتحرر من أعباء المنصب وقيوده، وقيود السياسة، بما في ذلك قيود تمويل الحملات الانتخابية، كان فاعلًَا بشكل لافت للنظر، في السعي من أجل السلام، والعدالة، ورعاية هؤلاء الذين يعيشون على الحافة، والذين يفتقرون للموارد اللازمة للفت انتباه السياسيين. راندال بالمر: رئيس كرسي قسم الأديان بجامعة دورتماوث ومؤلف كتاب:«المُخَلِّص: حياة جيمي كارتر»