جدّد حديث الجنرال أديرنو، رئيس هيئة الأركان الأميركية، عن احتمال تقسيم العراق، جدلاً يُعاد إنتاجه منذ عام 2003، ويبدأ في كل مرة من نقطة الصفر تقريباً. وهو ليس أول مسؤول أميركي كبير يتحدث عن هذا التقسيم. سبقه نائب الرئيس جون بايدن مؤيداً للتقسيم وداعياً لتحقيقه، وليس متوقعاً حدوثه فقط. فقد تحدث أديرنو عن التقسيم من زاوية ما يتوقعه وليس ما يدعو إليه، ودون أن يفصح عن رأيه الشخصي بخلاف ما فعل بايدن. لكن تصوره أن التقسيم قد يكون هو الحل الوحيد لتسوية الأزمة ووقف العنف الطائفي الفالت من عقاله في العراق، يثير سؤالاً عن مدى واقعيته. فرغم أنه يُعد أكثر القادة العسكريين الأميركيين معرفةً بما يجرى في العراق، فإن معرفته تتركز في الأوضاع الميدانية التي يُلم بتفاصيلها أكثر من غيرها. غير أن قضية مصير العراق أكبر من أن تُترك لأصحاب هذا النوع من المعرفة الجزئية، خاصة حين يكون مسؤولا في إدارة تُعد من أقل الإدارات الأميركية امتلاكاً لرؤية استراتيجية منذ الحرب العالمية الثانية. وحين تكون مثل هذه الرؤية غائبة، أو حتى غائمة، تُفتقد النظرة الشاملة إلى مختلف مكونات الأزمة، ومن ثم إلى سبل حلها. فقد رأى أديرنو أن التقسيم حل وحيد لأزمة لا يرى من مكوناتها إلا صراعات طائفية بينية. وهذا هو مصدر القصور في تقديره للموقف. فرغم أن الطائفية البغيضة هي جوهر الأزمة التي وضعت سياسات نظام صدام حسين أساسها، ثم فاقمتها نتائج الحرب الأميركية عام 2003، فقد أحدث الانفجار المذهبي في السنوات الأخيرة تداعيات جعلت الوضع أكثر تعقيداً. انتشر فساد هائل في مؤسسات النظام الجديد، وصار مصدراً لصراعات بين القوى الشيعية نفسها، وسبباً في احتجاجات شعبية في المناطق التي تخضع لسيطرتها. وتنامى الصراع على السلطة التي ظلت غنيمة مثلما كانت في عهد صدام حسين، لكن في شكل آخر. وأصبح الإرهاب مصدر تهديد خطير يتغذى على تداعيات التمييز المذهبي. وفي مثل هذه الأوضاع لا يتيسر تقسيم العراق إلى ثلاث دول أو دويلات حتى إذا حدث اتفاق بين المتصارعين فيه برعاية دولية، بل يبدو هذا التقسيم أكثر صعوبة من بقاء هذا البلد موحداً بشكل رسمي، لكنه مهلهل ومفتت فعلياً. فالأوضاع الراهنة في العراق يمكن أن تؤدي إلى تفتت تتواصل في ظله الصراعات وتأخذ أشكالا جديدة، وليس إلى تقسيم مُنظم يمكن أن يضع حداً لهذه الصراعات. لذلك يتعذر البحث عن مدخل لحل أزمة العراق عبر تقسيم يصعب تحقيقه في ظل اضطرابات في معظم المناطق التي يُفترض أن تصبح كيانات مستقلة. فمن ذا الذي يتصور إمكان إقامة «دولة شيعية» في ظل الصراعات الحادة على السلطة بين تيارين رئيسين على الأقل، وفي وجود عشرات الميليشيات التي يرتبط كثير منها بهذا التيار أو ذاك، بينما يتبع بعضها جهات إيرانية بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد بلغ العداء بين تياري رئيسي الحكومة الحالي والسابق ذروة جديدة بعد قرار البرلمان إحالة الأخير على القضاء ضمن من اعتبرتهم لجنة تحقيق شكلها البرلمان «متواطئين» وليسوا فقط مسؤولين عن سقوط الموصل في صيف العام الماضي. ويعني ذلك أن اليوم التالي لإعلان «دولة شيعية» قد يشهد حرباً أهلية لا تقل ضراوة عن تلك التي تهدد «دولة سُنية» يُلقى على القبائل فيها عبء مواجهة تنظيم «داعش»، الذي يمكن أن تضعفه الحرب الراهنة عليه، لكنها لن تُنهي مقومات وجوده في وقت قصير. ورغم أن الصراع داخل إقليم كردستان المستقل ذاتياً (بل فعلياً) في أمور كثيرة يبدو أقل حدة، فهو كاف لأن يجعل إعلان دولة فيه اليوم ضربة لمشروع يحلم به الكرد منذ قرن، وليس انتصاراً له. وإذا تأملنا الوضع على هذا النحو، يسهل استنتاج أن انفصال العراقيين طائفياً ليس هو الحل، بل انفصالهم عن تواريخهم المثقلة بالعداء والإقصاء والنبذ ورفض الآخر وتكفيره، وإعادة قراءة هذه التواريخ بعد تنقيتها من روايات لا تدفع إلا إلى الانتقام. وهذا بعض ما يصح أن تدركه الدول الكبرى عموماً، لأن إساءة فهم تداعيات تقسيم العراق في أي مدى منظور قد تُغرق المنطقة في مستنقع أكثر خطراً مما غرقت فيه حتى الآن.