دخل يوم الثالث والعشرين من هذا الشهر أغسطس لعام 2015 رحاب التاريخ العالمي والسوري بحدث مذهل خطف أنظار العالم، وأنظار السوريين بمختلف انتماءاتهم ومكوناتهم بكيفية خاصة، ذلك هو اقتحام المجلس المحلي لمدينة الرَّسْتن- قريباً من حِمص- وحرقه، من قبل دعاة الحرية والطامحين إلى تعميم الخبز على الجميع. فقد خرجت قنوات الإعلام المرئي إلى العالم لتخبر شعوبه بأن هنالك شعباً سورياً طالما صمد أمام القتل والجراح في أزمنة ومراحل متعددة، ولكنه حين تحرك، فقد صمّم على الانتصار العادل. أما المشهد الآخر، فقد قدمه الإعلام ممثلاً بخروج شعب الرستن- المنوّه بها فوق- باتجاه منظمات الإغاثة، هاتفاً ضد هذه المنظمات وضد الحكومة المؤقتة التابعة لـ«ائتلاف المعارضة»، في آن واحد، إنه مشهد لألوف الأطفال والنساء والرجال وهم يأخذون كل ما تصل إليه أيديهم من محتويات غذائية وأخرى غيرها ضمن منظمات الإغاثة في المدينة. كان الجهد الهائل المبذول وشظايا الشعور بالتحدي الحارقة ترتسم على وجوه الغاضبين على نحو شكل حالة بشرية تذكر بجموع الجياع، الذين ذهبوا إلى القصر الملكي في باريس عام 1887، مطالبين بالخبز الذي افتقدوه طويلاً. وكان ردّ الملكة في حينه، مُفعماً بالسخرية والمأساوية السوداء، حيث أمرت خُدامها بإعلام الحشود من «البؤساء المذلولين الُمهانين»، بأنهم إن لم يجدوا خبزاً، فليأكلوا «شوكولاطة» أو «حلويات»! كان هذا المشهد قد تلبس أولئك الباحثين عن موت خفيف لأطفالهم خصوصاً، بعد أن تحول الطعام إلى علقم في أفواههم، وكم هو مذهل ذلك المنظر لرجال ونساء يحملون شيئاً أو آخر من «منظمات الإغاثة» بيد، وعدداً من أطفالهم بيد أخرى. إن «البؤساء» ها هنا ظهروا على نحو آخر مختلف عن «بؤساء- هيجو». فقد ظهر تصميمهم على أن المرء يموت مرة واحدة، فَلْيمتها بشرف وكرامة. أما أولئك «الآخرون» الواقفون وراء هذا المشهد بروح من التشفي والشعور بالانتصار ممن «أوجدوا» ثورة هي برأيهم نتيجة «مؤامرة دولية خارجية» بقضها وقضيضها أن يدركوا أن المسألة ليست بهذه البساطة وأن التاريخ أعقد من ذلك وعلى نحو يجعل عاليها سافلها حسب الحكمة: على نفسها جنت براقش! وينبغي التنويه بأن سكان مدينة «الرستن» المذكورة آنفاً، ظلوا ثلاث سنوات محاصرين من الآخرين بقوة السلاح البري والجوي وهي في أثناء ذلك، عاشت في ظرف يحول دون انتقال المرء من مكان إلى آخر، إلا ويكون هذا قد أضحى أسير الموت. وثمة هنالك ما هو شديد القسوة يخضع له سكان المدينة المكلومة، وهو أنهم مطالبون من مجموعات من الأغراب الذين اخترقوا المدينة إياها، مطالبين أهلها بالخروج منها، ليتركوها في قبضة نمط آخر من السكان ينتمون إلى أرض أخرى ولغة أخرى ومجموعة أخرى من المنظومات الأخلاقية والمذهبية وغيرها. إن الفكرة المطروحة هنا والمطلوب من السوريين تنفيذها هي أن يقدموا وطنهم هدية باسم مذهب أو طائفة ما. وهؤلاء السوريون يدركون أن هذا المطلب غير محق لا باسم المذهب المعني ولا باسم الطائفة المعنية، وليس كذلك باسم التاريخ ولا الجغرافيا ولا اللغة، ولا باسم التكوين الديمغرافي.. إلخ. إنها مغامرة لا تسمح لنفسها بالتحقق وبالانتظار ليوم قادم، لأن ذلك إن حدث، فسوف يمثل نشازاً غارقاً بالظلم والقسوة والتكلفة التاريخية الباهظة وفي النهاية، لن تجد حداً ما من حدود النجاح، لأنها تقف في وجه ما هو مسموح له أن يلقى نجاحاً في تاريخ العالم، خصوصاً حين يأخذ الناس بالقول الجميل: عاقل حكيم من اتعظ، وتمسك بحدود الكرامة الإنسانية والقوانين المجتمعية!