ألقى العاهل المغربي الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثانية والستين لثورة الملك والشعب، والتي تصادف عيد ميلاده الثاني والخمسين، خطاباً هو في حقيقته تجسيد لعرش يمتد إلى أربعة قرون. وبعد مرور ست عشرة سنة في الحكم، أصبحت للعاهل المغربي حصيلة في الحكم، وأسلوب خاص في معالجة المشاكل واستباقها، وحصافة تسبر أغوار الأمس واليوم، وعين قريحة شديدة الانتباه لدقائق أمور المسار العام، إلى درجة أن الجالس على العرش قطع آلاف الكيلومترات في الأركان الأربعة لمملكته، ووطأت قدماه أراضي لم تطأها أقدام أحد من قبل، وكان همه الأول ولا يزال محاربة الفقر والتهميش والفوارق الاجتماعية. وإذا تمنعنا في خطابه الأخير، نجد أنه زاوج بين الأمن الدائم للمملكة والتقدم التنموي والسياسي الذي لا ينضب. لذا فقد أكد أن المغرب ظل وسيظل أرضاً لاستقبال ضيوفه، ولن يكون أرضاً للجوء، مبرزاً أن للمغرب أولوياته الداخلية، وهو يركز جهوده على معالجتها، ويعمل على رفع التحديات التي تواجهه من أجل تمكين المواطن المغربي من أسباب العيش الحر الكريم. ووجه الملك تحية إشادة وتقدير لكل الأجهزة الأمنية على يقظتها في التصدي لمختلف المحاولات الإرهابية التي تحاول يائسة المس بالنموذج المغربي، الذي يشهد العالم بتميزه. واعتبر العاهل المغربي، وأيام قلائل تفصلنا عن انتخابات مصيرية، أنه إذا كان عدد من المواطنين لا يهتمون كثيراً بالانتخابات ولا يشاركون، فلأن بعض المنتخبين لا يقومون بواجبهم على الوجه المطلوب، بل إن منهم من لا يعرف حتى منتخبيه. وإذا أمعنا النظر في هاتين المعادلتين، يصح لنا القول بأن السلم الاجتماعي والأمن اللذين يعمان المملكة هما نتيجة سياسات استباقية حكيمة، أمنية وسياسية واستراتيجية. أولاها الميثاق السياسي والتعاقدي الذي وسم الحياة السياسية المغربية. وهذا الميثاق التعاقدي ينبغي تطعيمه دائماً ببذور جديدة وسقيه بوابل ليأتي أكله الطيب على الدوام، لذا نفهم الانتقادات الحادة التي وجهها العاهل المغربي لبعض الانحرافات التي قد تشوب الانتخابات الجماعية والجهوية المقبلة (4 سبتمبر)، فعليها مصير ومستقبل تسيير الشأن العام، خاصة أن 12 مليون مغربي (أي ثلث سكان المغرب) في القرى والمدن، مازالوا ضحية الفقر والتهميش، والبلاد بحاجة إلى مبادرة وطنية جديدة للتنمية البشرية كلفتها 52 مليار درهم مغربي، ولن تستطيع القيام بهذا العمل إلا نخب سياسية وتنموية منتخبة يكون همها وهدفها خدمة المصلحة العامة. الديمقراطية تعني مما تعنيه انتخابات دورية وتناوب على السلطة وتحقيق السلم الاجتماعي والأمن داخل المجال السياسي العام، وهو ما نجح المغرب في تحقيقه، لكن حاملي مشعل نتائج صناديق الاقتراع يجب أن تُبث فيهم دماء تنموية، وروح ونفس جديدان. المسألة الأخرى هي السلم الذي ينعم به المغرب مقارنة مع جيرانيه الأقربين. فقد استطاع المغرب تحقيق الأمن الروحي والديني والاجتماعي للمغاربة انطلاقاً من إرثه التاريخي والديني وإمارة المؤمنين، وطبيعة مذهبه المالكي المبني على الوسطية والتسامح وقبول الآخر.. وهذا يعني أيضاً تأمين حدوده والضرب على كل من سولت له نفسه خلق الفتنة وخرق سياج الأمن الذي ينعم به البلد. المغرب قطع أشواطاً متميزة يحسد عليها، وجلب آلاف المستثمرين الأجانب الذين وجدوا في البلد كل ما يمكن أن يجدوه متفرقاً في عدة بلدان، والمغرب بتعبير شركات عالمية مثل «رينو» و«بيوجو» لصناعة السيارات و«بومبارديي» لصناعة الطائرات.. والمستقرة حاليا في المغرب، هو جزيرة هادئة في محيط لجي. ثم إن هذا الميثاق السياسي الذي بلور، وبخاصة بعد تداعيات الأحداث الإقليمية والعربية لسنوات 2010 و2011، كان وعداً بدخول المغرب إلى نادي الديمقراطيات العريقة، ووقع الاتفاق مع الأحزاب السياسية التقليدية المتواجدة داخل المجال السياسي العام المغربي والتي كانت دون المستوى المطلوب. وليس للسياسة قواعد ثابتة ولا عقود تأمين أو ضمانات، بل ذكاء ومهارة وقدرة على التكيف واستباق الأحداث والعواصف. وخطابات العاهل المغربي في السنوات الأخيرة كلها نقدية وسياساته استباقية واستشرافية، لعبت حتى دور المعارضة في مجال سياسي عام يشتكي أحياناً من شعبوية أعضائه، وتقليدية أفكاره، وفقدان روح التجديد والتكيف مع ضرورات العصر، وهذا ما يجب إصلاحه.