البارزاني: مكاسب كردستان وسيناريو التمديد لا يخفى على المتابعين لتطورات إقليم كردستان العراق، ما يخالج سكانه وأغلبية نخبه من توجس وقلق جرّاء الخلافات المتصاعدة حالياً بين القوى السياسية الكردية حول التمديد لرئيس الإقليم مسعود البارزاني في منصبه، لاسيما أن نعمة الاستقرار التي حظي بها إقليم كردستان، قياساً إلى باقي أنحاء العراق الأخرى، كانت العامل الأول وراء بزوغه التنموي اللافت للانتباه منذ عدة أعوام. فبعد أقل من 48 ساعة على إعلان مجلس شورى الإقليم عن تمديد مدة ولاية رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، انفض فجر الأربعاء الماضي اجتماع الأحزاب الكردية، دون التوصل إلى توافق حول التمديد للبارزاني الذي انتهت ولايته في اليوم ذاته (19 أغسطس الجاري)، وإن أقر الاجتماع مبادئ عامة حول مسألتي منصب رئاسة الإقليم، والانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني. ووسط هذا الخلاف السياسي، يبقى البارزاني، رئاسته وقراراته، محوراً في مواقف القوى الكردية العراقية، معه كانت أو ضده. فمن هو البارزاني؟ وكيف يمكنه الحفاظ على رئاسته وعلى المكاسب الأمنية والتنموية للإقليم؟ يعد البارزاني، زعيم «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، أبرز القادة السياسيين في إقليم كردستان، لذلك تقلد رئاسة الإقليم منذ عام 2005 في إطار صيغة لتقاسم السلطة مع شريكه القوي زعيم «الاتحاد الوطني الكردستاني»، جلال طالباني الذي تقلد رئاسة الجمهورية العراقية كأول كردي يصل إلى ذلك المنصب. ولد مسعود البارزاني عام 1946 على أراضي «جمهورية مهاباد» الكردية في كردستان إيران، حيث كان والده مصطفى بارزاني على رأس مجموعة من المقاتلين البارزانيين شاركوا في الدفاع عن الجمهورية التي استمرت لأشهر قليلة فقط. وفيما غادر البارزاني الأب إلى موسكو، بعد سقوط «مهاباد» على أيدي القوات الإيرانية، عاد أفراد عائلته، وضمنهم الطفل مسعود، إلى قريتهم بارزان في كردستان العراق. وهناك التحق مسعود بالدراسة الأولية، ثم انتقل إلى بغداد عام 1958 للقاء والده العائد من منفاه الإجباري. لكن شهر العسل بين الأكراد ونظام عبدالكريم قاسم لم يدم طويلاً، إذ اندلعت معارك بينهما عام 1961، فوجد مسعود نفسه بين مسلحي البيشمركة. ومع وصول حزب «البعث» مجدداً إلى السلطة في يوليو 1968، كان البارزاني الابن قد استلهم دروس القيادة من والده، فانتدبه لتمثيله في محادثات مع الحكومة المركزية في بغداد لصوغ اتفاق مارس 1970 الخاص بالحكم الذاتي للأكراد. لكن الاتفاق لم يصمد طويلاً، وجاءت «اتفاقية الجزائر» عام 1975 لتعجل بانهيار الحركة الكردية، فلجأ مسعود مع والده إلى إيران، حيث حاولا إعادة بناء الحركة الكردية، لكن مصطفى البارزاني توفي في مارس 1979، بينما كانت التحضيرات جارية لعقد المؤتمر التاسع لـ«الحزب الديمقراطي الكردستاني»، المؤتمر الذي اختار مسعود زعيماً للحزب خلفاً لوالده. وفي ذلك الأثناء سيطر المركز العراقي على مناطق كردستان، لكن ما أن هُزم العراق في حرب الخليج الثانية على أيدي التحالف الدولي عام 1991، حتى بدأت الأحزاب الكردية، وعلى رأسها «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الزحف نحو الإقليم والسيطرة على مدنه واحدة بعد الأخرى، وإقامة مؤسسات للحكم والإدارة، بدعم من الولايات المتحدة التي فرضت منطقة حظر للطيران في جنوب العراق وشماله. غير أن الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1994 بين الفصيلين الكرديين الرئيسيين، «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني»، تسببت في تقويض إدارتهما المشتركة للإقليم، فاستنجد البارزاني بالقوات العراقية لمحاربة غريمه الطالباني، وأدى تدخل تلك القوات إلى هزيمة «الاتحاد الوطني الكردستاني» ولجوء قيادته إلى إيران. لكن الطرفين الكرديين اتفقا في واشنطن عام 1998 على وقف لإطلاق النار، كما تقاسما المنطقة الكردية إلى قسم تديره حكومة البارزاني، ومقرها مدينة أربيل، وقسم تديره حكومة الطالباني، ومقرها مدينة السليمانية. لكن بعد الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين، في أبريل 2003، شرع الجانبان الكرديان بتوحيد الإدارة في المنطقتين، وإعادة تفعيل البرلمان الكردي، وأصبح البارزاني والطالباني عضوين في «مجلس الحكم» العراقي. وبذلك خرجت القيادة الكردية من الإطار المحلي الضيق لمشروعها الخاص، إلى النطاق العراقي الأوسع، خاصة بعد أن تولى البارزاني الرائاسة الدورية لمجلس الحكم العراقي، ثم أصبح الطالباني رئيساً للجمهورية العراقية. وانتُخب البارزاني في يونيو 2005 كأول رئيس لإقليم كردستان، فأصدر أوامره بإنزال العلم العراقي ورفع علَم كردستان العراق بدلاً عنه في كافة أنحاء الإقليم. كما قرر فرض تأشيرة الدخول على العراقيين القادمين إلى الإقليم. بيد أن كردستان العراق تحولت في ظل رئاسته إلى ورشة اقتصادية ومعمارية نشطة، وباتت قبلة لكثير من الشركات العالمية، وانتشرت مظاهر الازدهار والرخاء المعيشي فيها.. لذلك تمت إعادة انتخابه لولاية ثانية في يوليو 2009، بنسبة 70% من أصوات الناخبين. ورغم أن ولايته انتهت في 2013، فإن اضطرابات «الربيع العربي»، والتي حاولت قوى كردية محاكاتها في كردستان العراق دون نجاح، ثم موجات اللاجئين الأكراد السوريين الذين تدفقوا على الإقليم.. لم تسمح بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعدها المحدد. لذلك صوت برلمان الإقليم، في يوليو 2013، على مشروع قانون لتمديد ولاية البارزاني سنتين. لكن القرار طالب بتنظيم انتخابات برلمانية خلال تلك الفترة، وشدد على أن التمديد لمنصب الرئاسة غير قابل للتجديد مرة أخرى. ومن هذا التشديد ينبع الجدل -إن لم نقل المأزق- الحالي الذي تحاول القوى السياسية في كردستان العراق تخطيه، إما بإجراء انتخابات يرى البارزاني أن الأجواء غير مواتية لتنظيمها الآن، أو بالتمديد الذي تعترض عليه قوى رئيسية، وإن كانت تقبله شريطة إقرار دستور للإقليم ينقله من «ضيق» النظام الرئاسي إلى «سعة» النظام البرلماني. والأرجح أن يحصل التوافق على القبول بسيناريو التمديد، بغض النظر عن أية نصوص قانونية تمنعه أصلا، لاسيما أن القوى الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وتركيا، تُلقي بثقلها وراء البارزاني وتحاول إقناع الأحزاب والقوى الكردية بـ«ضرورة» سيناريو التمديد، حفاظاً على ما تحقق لأكراد العراق من امتيازات ومكاسب، وتأجيل النظر في مسألة طبيعة الحكم في الإقليم إلى مرحلة لاحقة! محمد ولد المنى