يستحق صادق جلال العظم، الكاتب والمفكر السوري، أن نحتفي به مع الألمان هذا الأسبوع في مدينة فيمار، في احتفال مهيب يمنح خلاله ميدالية الشاعر الألماني «جوته»، ابن مدينة فيمار وأحد أهم مشاهيرها. ليس هذا غريباً على قلم العظم الذي اجترح الشجاعة وسار ضد التيار ولم ينجرف وراء الأدلجة الشعبوية. لم يتوقف هذا العقل المفكر عن الإنتاج والسجال وخوض معارك التحديث والنقد طيلة نصف قرن، وقف العظم مع ضميره الفكري، وصرّح من دون مواربة. في نقده للهزيمة («النقد الذاتي للهزيمة») نفض الكسل التحليلي التآمري الذي يلقي باللائمة على الغرب ويعلق على مشجب الخارج كل التخلف الذي نرتع فيه. في نقده لسيطرة الدين على الفضاء العام وتفشي «ذهنية التحريم»، كسر الخطوط الحمر وقدم نقداً من داخل منظومة العقل الديني. وفي نقده لنمط آخر من الكسل الفكري أنتجته مقولات «الاستشراق» الإدوارد سعيدية، قال إن شطب عمل الاستشراق والمستشرقين دفعة واحدة، وهو النتيجة التي لم يردها سعيد، يعني تعزيز فكر المؤامرة، وتوفير عتاد للفكر الرجعي والظلامي كي يتمترس وراءه. إنه «استشراق معكوس» بحسب عنوان مقاربته في نقد «الاستشراق» لسعيد. لم تتكلس ثقافة العظم عند القناعات اليسارية التي ظلت تشكل الدافعية الأخلاقية لمقارباته، ولم يقع أسيراً لأيديولوجيا تتجمد عند مقولاتها ولا تعترف بحركة التاريخ، بل عن اليسار العربي نفسه يقول العظم إنه تفرع بعد عقود طويلة إلى ثلاث مجموعات، إحداها البقية الباقية من الأحزاب الماركسية العربية التي تفتت إلى درجة الاختفاء، وثانية احتفظت ببرامج أحزاب ماركسية الحرب الباردة واقتربت من الإسلام السياسي الجهادي، وثالثة تراجعت إلى خط الدفاع الثاني نحو إحياء المجتمعات المدنية وتبني خطابات ديمقراطية في مواجهة المد الأصولي. فرح العظم بـ«الربيع العربي» واحتفى به، حيث رأى فيه عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد عقود من الجمود. ورأى في لحظة «ميدان التحرير» عودة التاريخ إلى المنطقة، وظل متفائلاً حتى اللحظة، رغم كل السوداوية التي هبطت على الثورة الأقسى في بلاده سوريا، وعن سوريا نفسها كتب ونطق بأجرأ ما قد ينطق به مثقف في موقعه، وعبّر عما كان يجول في عقول الكثيرين لكن الخشية من الاتهام بالطائفية أسكتتهم، وعبّر في محاضرة شهيرة له عما أسماه «العلوية السياسية»، والتي تعني وقوع سوريا الطويل في قبضة نظام اشتغل على إعادة إنتاج البلد العريق وفق نظام اعتمد الطائفية العلوية وقوَّض بها الأكثرية السنية، واستأثر بالحكم، والاقتصاد، والمال، والأمن.. عبر فئة زبائنية. انتقد العظم التوجهات الغربية التي تصاعدت بعد الثورة السورية بزعم الدفاع عن الأقليات في سوريا، وقال إن سوريا وتاريخها لم يشهدا حروباً أهلية إثنية أو طائفية تستدعي هذا النفير المزيف للدفاع عن الأقليات، وكأن الأكثرية السنية تنتظر اللحظة السانحة لتبطش بالجميع! يقف العظم في أرضية إنسانوية صلبة متجاوزة للإثنيات والطوائف والأديان، ومن يحشره في «الطائفة السنية السورية» يكشف ضحالة وعي تثير التساؤل حول مدى الفهم والإدراك العميق عند مُطلق الاتهام. في نهاية القرن الماضي وبدايات القرن الحالي انخرط العظم في السجال العريض حول العولمة، وكان من المفكرين العرب القلائل الذين أثارتهم هواجسها ومنحنياتها، وتهديمها للحدود القومية. كان من أوائل من لاحظوا أن الجوهري في العولمة الحديثة وما يجعلها مفترقة عما سبقها من عولمات، هو في ارتحال مراكز الإنتاج، وليس ارتحال رأس المال فحسب. بين فيمار وبرلين تولدت اللحظة اللوثرية التقدمية في الغرب، والتي أرادت تحرير الفرد من هيمنة الكهنوت الكاثوليكي. اللحظة اللوثرية كانت تنهي المسيحية السياسية، واللحظة المناظرة لها عندنا كانت تؤسس للإسلام السياسي اللاحق. العظم يرى في هذا الأخير كارثة على السياسة والدين، ويدعو إلى لحظة لوثرية تعلي من شأن التدين العفوي والشعبي الذي حفل بالتعايش والإبداع طيلة قرون مديدة.