في حديثة لندوة «ثقافة السلم» التي نظمها الأسبوع المنصرم «المعهد الموريتاني للدراسات الاستراتيجية» في نواكشوط، قدم العلامة الموريتاني «الشيخ عبدالله بن بية» ثلاث أفكار أساسية في تأصيل فكر السلم من المنظور العقدي والقيمي الإسلامي: أولاها: أن الأصل في الأحكام الشرعية المتعلقة بالبشر في مجملهم على اختلاف دياناتهم ومللهم هو المودة والسلم، أما الحرب والمواجهة فهي الاستثناء الذي لا يبرر إلا برد العدوان والدفاع عن النفس، فالرسالة كما في الذكر المحكم «رحمة للعالمين»، والعالم حسب اصطلاحات الشرع هو كلما سوى الله، ولذا فهي تتجاوز الآدميين لتشمل عموم المخلوقات من كائنات حية بل وجمادات. ومن ثم نفهم النصوص التي تتعلق بالرفق بالحيوان واحترام البيئة، فكيف بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه وأهله لخلافته ووضع فيه أمانته. ثانيتها: أن أحكام الفقه الإسلامي التي قننت في العصور الوسطى لا يمكن أن تفهم خارج سياقها، وهو سياق ليست فيه نظم ولا اتفاقيات دولية تحمي السلم وتمنع العدوان، بل السائد فيه هو منطق الحرب المفتوحة والتوسع غير المقيد، وأقصى ما يمكن للإسلام هو وضع القواعد والأخلاقيات الملزمة في إدارة الحرب وحماية الناس وصد الاعتداء. ثالثتها: أن فقه السلم -الذي ساهم الشيخ بن بية بقوة في وضعه وتطويره- يجب أن يحتل المكانة اللائقة به في خريطة العلوم الشرعية واهتمامات الأمة، في مقابل التركيز على فقه الحرب الذي يختزل فيه عادة مفهوم الجهاد، على رغم أن هذا المفهوم أوسع من العمل العسكري، ويعني أساساً بذل الجهد في عمل الخبر والمعروف. وأشار ابن بية هنا على الأخص إلى ضرورة استثمار معاني المحبة والرحمة في الشرع والتركيز عليها في العمل السياسي والخطاب الإعلامي، بدلًا من نغمة الصدام والمواجهة السائدة حالياً. وما ينبغي تأكيده هنا هو أن فقه السلم يصطدم راهناً بتحديات كبرى في مستويين رئيسيين، يتعلق أولهما بما نلمسه جلياً من عسكرة العمل السياسي في العديد من البلدان الإسلامية، ويتعلق ثانيهما بالاصطفاف الطائفي المتفاقم في العديد من الساحات المسلمة. وفي المستوى الأول، نشير إلى بعض الفتاوى الأخيرة التي ذهبت إلى حد تبرير اغتيال رجال الدولة والقضاء والجيش من منطلق أحكام «القصاص»، وهي فتاوى مردودة، كما يدرك من له أدنى اطلاع على أدبيات التقليد الفقهي الإسلامي التي تمحورت حول مطلب حماية السلم الأهلي واتقاء الفتنة وحصر شرعية استخدام العنف في الدولة وحدها. وفي المستوى الثاني، نشير إلى الفتنة الطائفية التي أشعلها المتطرفون من السنة والشيعة واستخدمتها أطراف خارجية في تأجيج العنف المدمر في المنطقة، وقد وظفت لهذه الفتنة المأساوية أدبيات متجاوزة ترجع لسياق الصراع العقدي السياسي الوسيط. وفي الحالتين، نحن أمام عوائق جوهرية في صلب الخطاب الفقهي والدعوي القائم، يبدو في الظاهر أنها من مخلفات التقليد الشرعي الموروث، بينما ينبغي التنبه في الواقع إلى أنها أثر تأويلي بعدي لنصوص مستلّة من سياقها الأصلي، ولذا فإنها تحمل بصمات ظاهرة الأدلجة الدينية التي هي حالة راهنة غير مسبوقة قلبت جذرياً المنظور التأويلي كله للدين في قوالبه الفكرية وأنماطه المعيشة. ومن هذا المنطلق، يقصى تراث التسامح والانفتاح في التقليد الإسلامي، وتحمل إلى الواجهة أدبيات التكفير والتعصب، فتصبح الفتوى بحصر مشروعية الجهاد في الدفع لا الطلب قولًا شاذاً خارجاً عن الإجماع (على رغم أنه قول الصحابي الجليل ابن عمر وفقيه مكة عطاء وغيرهما)، ويصبح قول إمام أهل السنة أبي حامد الغزالي في حصر معنى الكفر بالعناد مع بلوغ الحجة وإقامة الدليل من شذوذات الفلاسفة! وفي مسار الأدلجة الدينية تتحول القيم والأخلاقيات العليا في النص إلى أدوات قانونية وسياسية إكراهية وقمعية، فتنتفي أبعاد الهداية والرحمة التي هي روح الدين وأصله، وتتكرس القطيعة العدمية مع تقليد الأمة في تنزيل نصوصها وشرائع دينها من منطلق قراءات تجزيئية فقيرة للمدونة الدينية. ومن هنا، ندرك أهمية مبادرة «تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة» التي رعتها دولة الإمارات العربية المتحدة، وأشرف عليها علمياً الشيخ ابن بية رئيس منتدى السلم، باعتبارها تحمل مشروعاً طموحاً لإطفاء حرائق الفتن المشتعلة في العالم الإسلامي وتجديد ثقافة السلم في الخطاب الديني وبناء جسور الحوار والمودة والتعاون مع باقي العالم.