في مقالة نشرتها «النيويورك تايمز» للكاتب الأميركي توماس فريدمان، افترض أن الظروف المناخية القاسية التي تضرب منطقة الشرق الأوسط في سوريا والعراق وفي إيران، ستكون أكبر عامل في أن تستيقظ شعوب هذه البقعة التي تفتك بها الحروب الأهلية والاحتراب الطائفي، وفي عبارة أخاذة تبدو حكيمة قال فريدمان، إن الطبيعة غير مهتمة بما يجري إلا بالكيمياء والفيزياء والأحياء، وكل هذه العوامل هي التي ستجعل من المنطقة يباباً طارداً يخيم عليها شبح المجاعة والجوع والهجرات الجماعية بحثاً عن الأمان الغذائي، وفراراً من التهلكة تحت قسوة الطبيعة. هذا ملخص فكرة مقالة فريدمان، إلا أن التاريخ يؤكد خلاف كل هذه التوقعات، فلم يسبق البتة أن كانت كوارث الطبيعة عاملاً في الصحوة من جنون الحروب الطائفية، وتاريخنا القريب جداً يؤكد هذا، فعشرات الحروب القبلية والدينية التي عرفها العراق والشام والجزيرة العربية كانت تحدث في ظروف يعيش فيها البشر على ما يبقي ذماء الروح، وبضع تمرات ورشفات ماء تسد الجوع، وفي الثلاثمائة عام الأخيرة ضربت الجزيرة مجاعات وسنوات جدب تسببت بهجرات كبيرة، ولكنها لم توقف الحروب الدينية. وفي تاريخ أوروبا منذ القرن الخامس عشر كانت الحروب الدينية قائمة، ويذهب ضحاياها مئات الألوف في الوقت نفسه الذي تحصد فيه الأوبئة والمجاعات مئات الألوف والملايين الآخرين. ولم تكن هذه عاملاً في انحسار تلك. في الفيلم الأميركي الكئيب The book of Eli، يظل «دينزل واشنطن» محافظاً على السر الذي يحمله معه «الكتاب المقدس»، في وقت تكون فيه البشرية قد عاشت كوارث طبيعية تسببت بمقتل مليارات البشر، حيث انقضت ثلاثون عاماً على حرب نووية مبيدة، تسببت بها الحروب الدينية، التي جعلت مَن شهدوها وعاشوا ويلاتها يغلب عليهم الإلحاد ومكافحة الأديان، ولأن «إيلاي» يبحث عن مصدر للمياه بعد قحط يضرب الأرض، يصل إلى بلدة متداعية بناها وأشرف عليها «كارنيجي» الذي يحلم ببناء المزيد من المدن والسيطرة على الناس باستخدام السلطة من كتاب معين. كما أن أتباعه يزاولون البحث يومياً عن هذا الكتاب في الخرابات والمناطق المهجوره، ولكن دون جدوى. فـ«كارنيجي» المسيطر كان يطمح إلى سلطة دينية، إلى وسيلة تمكنه من السيطرة على الشعب الجائع عبر قوة روحانية تخضعهم بعد أن عم إنكار الإله في الأرض! وفي عام 1909، عرفت الجزيرة العربية «سنة الجوع»، وينقل الرواة أن عظم الكلب كان يعلن عنه في السوق مرتين أو ثلاثاً. في «سنة الجوع» تناقل الناس قصصاً مؤلمة وفاجعة عن أكل الأطفال، وأكل لحوم البشر. كل هذا كان يحدث في الوقت نفسه الذي كانت الجزيرة العربية تعيش حروباً نابعة من بواعث دينية. والسبب في هذه الحالة الإنسانية المعقدة أن الطبيعة الجائرة التي تجعل من الموارد شحيحة، ومن الحصول على لقمة العيش والخبز محنة يومية، هي لا تهذب البشر ولا تجعلهم روحانيين، وأكثر إنسانية وقناعة بأن جل ما يتخاصمون عليه، ويحتربون عليه ليس إلا وهماً، بل العكس هو الصحيح، فشح الموارد يجعل البشر أكثر التصاقاً بتفاسير غيبية تجعل من فئة ما ضحية وأشراراً وكفاراً وسبباً في الجدب والقحط والجوع. في لحظة ما تكون نخبة سياسية متنورة متخمة بالحكمة قادرة على العبور بالشعوب نحو بر الأمان، وهذا هو العامل الأكبر في النضج والرشد الذي بلغته أوروبا، التي وصلت أخيراً إلى سلام يراه البارون ديفيد روتشيلد «سلاماً هشاً قابلاً للارتكاس».