عندما مات جوليان بوند الأسبوع الماضي، تبارت وسائل الإعلام في رثائه، مسلطة الضوء على محاسنه بامتداح خمسة عقود قضاها في الكفاح من أجل الحقوق المدنية، والحقيقة أنه يستحق كل الثناء الذي قيل عنه. فقد كان شجاعاً وصاحب رؤية وثابتاً على مبادئه، وإستراتيجياً نافذ البصيرة، وصوتاً لا يكل ولا يمل في الدفاع عن العدالة لكل مَن حرموا من حقوقهم. ولكن بالنسبة لي، كان جوليان أكثر من ذلك، فقد كان معلماً لي منذ أكثر من أربعة عقود مضت، وقد علمني درساً أرشدني طوال مسيرة عملي. وعلى رغم أنني تحدثت سابقاً عن قصة لقائي الأول مع جوليان بوند في عام 1973، ولكن لأنني أعتقد أنها لا تزال وثيقة الصلة بالأحداث الراهنة، أود أن أشارك هنا درس جوليان مرة أخرى. وتبدأ القصة في مؤتمر الحزب الديمقراطي في شيكاغو عام 1968، في ولاية إلينوي. وخلال الأشهر التي سبقت المؤتمر، كانت البلاد تشهد سلسلة من التطورات الصادمة، إذ تم اغتيال «مارتن لوثر كينج» في أبريل. وكان ثلاثة في مجلس الشيوخ مناهضين للحرب، هم: «إيجوين مكارثي» و«روبرت كيندي» و«جورج ماجفرن»، يديرون حملات قوية ضد الرئيس الأميركي آنذاك ليندون جونسون تعارض سياساته تجاه الحرب في فيتنام. وأجبرت نجاحاتهم في النهاية جونسون على إعلان أنه سينسحب من السباق، إلى أن تم اغتيال كيندي في بداية يونيو، وعندما اجتمع الديمقراطيون في شيكاغو في أغسطس، كانوا لا يزالون يترنحون من هول تلك الأحداث، وكان المؤتمر نفسه حدثاً شديد الاضطراب، جمع كل المجريات المتصارعة في تلك الفترة. وانعكست المجريات نفسها داخل المؤتمر. وبعد ذلك، وقعت معركة على المنصة في المؤتمر بشأن بند رئيسي في البرنامج يعارض الحرب في فيتنام، وأصبحت أعمال المؤتمر حامية الوطيس مثل المظاهرات في الخارج، وفي النهاية تمت هزيمة المؤيدين لهذا البند، ولكن في محاولة أخيرة لمواصلة احتجاجهم، قرر التقدميون في الحزب تحدي الشخص الذي وقع عليه اختيار الأعضاء التنظيميين في الحزب لمنصب نائب الرئيس، السيناتور «إد موسكي». ورشح التقدميون جوليان بوند كمرشح لهم للتسابق على المنصب، مع مرشح الرئاسة الديمقراطي «هوبرت هامفري». و«هامفري» الذي كان عضواً في مجلس الشيوخ ويتمتع بسمعة جيدة في سجل حقوق الإنسان وحقوق العمال، كان قد خدم كنائب للرئيس جونسون، ومن ثم، نظر إليه الديمقراطيون المناهضون للحرب بعين الريبة، وأيد الأعضاء التنظيميون في الحزب «إد موسكي»، وفازوا في ذلك اليوم. وفي اليوم الختامي، بعد أن أدلى كل من «هامفري» و«موسكي» خطابي قبولهما، ووقفا في وسط المسرح في خضم ابتهاج الأعضاء التنظيميين، حدث شيء جدير بالملاحظة، حيث تحرك «جوليان بوند» إلى وسط المسرح، وذهب مباشرة إلى «هامفري» و«موسكي» وشبك يديهما بيديه، ومثل كثير من النشطاء الشباب في ذلك الوقت، أصابني ذلك المشهد بالحيرة وخيبة الأمل. وبعد أعوام قليلة لاحقة، التقيت «جوليان بوند»، عندما حضر إلى محاضرة في الكلية التي كنت أُدرّس فيها. وسألته حينها عن سبب ما فعله في تلك الليلة، وأخبرته بمدى الإحباط الذي شعرت به. وفي رده عليّ، أخبرني بأنه كان هناك نوعان من الناس، أولئك الذين نظروا إلى شرور ذلك العالم مثل الحرب والعنصرية والاضطهاد، وقالوا: «سأظل على مبادئي لأن الأمور ستتحسن في النهاية حتى لو زاد الوضع سوءاً في الوقت الراهن».والنوع الثاني: أولئك الذين كانوا يقولون: «علي أن أبذل قصارى جهدي في العمل وأنظر ما إذا كنت أستطيع أن أجعل الأمور تتحسن على الأقل». وقد أخبرني بأنه «من النوع الثاني، لأنه لو كان من النوع الأول، سيسمح باستمرار معاناة كثير من الناس، بينما يحتفظ بنقائه الأيديولوجي، رافضاً فعل أي شيء لمساعدتهم». ولم أنسَ ذلك الدرس أبداً، وأكافح يومياً لتطبيقه، ولهذا السبب أيضاً ينفد صبري سريعاً تجاه الأيديولوجيات من اليمين أو اليسار.