في تحولٍ غريب من تحولات الحرب الباردة الجديدة، تطالب الولايات المتحدة الصين بالعمل على استعادة العملاء الذين ارسلتهم سراً إلى الولايات المتحدة، وذلك بغية الضغط على المسؤولين الصينيين ورجال الأعمال الفاسدين، للعودة لبلدهم وخضوعهم للعقاب. لقد تبدل الوضع تماماً بالنسبة لولايات المتحدة التي اعتادت في الماضي، وعلى نحو متكرر، القيام بإرسال عملائها إلى دول أخرى من دون إذن، للقبض ليس على الإرهابيين فحسب، وإنما على المجرمين أيضاً. لكن هذا التحول التام للوضع، ليس هو الشيء الأكثر لفتاً للنظر في هذا الأمر، فالشيء الأكثر أهمية -في الواقع- فيما يتعلق بالجهود الصينية السرية، هو ذلك الذي يمكن التعبير عنه من خلال السؤال: لماذا تعتبر الصين أصلا أن مثل هؤلاء الأشخاص ذوي أهمية بالنسبة لها؟ الولايات المتحدة عادة ما تكون سعيدة، عندما تقوم بترحيل المجرمين إلى بلادهم الأصلية، وعندما تكون هناك اتفاقيات لتبادل المجرمين مع تلك البلدان. قد يقول قائل إن عدم وجود مثل هذه الاتفاقية بين الولايات المتحدة والصين يحول دون قيام الأولى بذلك.. وهو قول صحيح في مجمله، إلا أنه ينبغي أن نضع في الاعتبار أيضاً أن التبادل الرسمي للخارجين على القانون من خلال اتفاقيات موقعة، ليس هو الطريقة الوحيدة لإرسالهم لبلادهم. هنا يكون السؤال: لماذا لا تنسق الصين مع جهات إنفاذ القانون الأميركية لإعادة مجرميها إليها؟ وفيما يتعلق بموضوع البحث: لماذا لا تسعى الصين إلى عقد اتفاقية لتبادل المجرمين مع الولايات المتحدة من الأساس؟ هناك أسباب عديدة لذلك، وهي أسباب معقدة، ومثيرة للاهتمام، وتكشف بعضاً من الجوانب شديدة الأهمية المتعلقة بحملة الرئيس الصيني «شي جين بينج» المميزة ضد الفساد في بلاده. السبب الأول، هو الشعور بعدم الثقة الذي تكنه الصين للولايات المتحدة، والذي ما يزال مستمراً، والذي دفعها لعدم التعاون مع الحكومة الأميركية من أجل ترحيل المشتبه بهم. الشيء الأكثر إثارة للقلق، ربما، من جانب الصين، ليس هو فرار المسؤولين الفاسدين إلى الولايات المتحدة هرباً من الملاحقة، بل ما ينتج عن ذلك من أحراج سياسي بالغ بالنسبة لها. فمشكلة الفساد في الصين مشكلة بالغة الخطورة، والرئيس «شي جين بينج» يدرك تماماً أن مصير الحزب الشيوعي الصيني كحزب حاكم يعتمد على هزيمة الفساد، أو على أقل تقدير تقليصه إلى مستوى لا يهدد الأساس الأخلاقي الذي ينبني عليه حكم الحزب. وبالنسبة لحزب يريد المحافظة على شرعيته، فإن مكافحة الفساد تستلزم على الدوام توازناً حرجاً. داخل الصين يستطيع الرئيس تحقيق هذا التوازن لأنه يتحكم من خلال الحزب في وسائل الإعلام والمنظومة القانونية، أما في الخارج فالموضوع أصعب بكثير. فالذهاب إلى مسؤولين أميركيين ومطالبتهم بكل تواضع، أن يقدموا يد المساعدة لإعادة الأشخاص الصينيين الفاسدين لبلدهم، سوف يفاقم من الأحراج الصيني بشأن مدى وعمق الفساد المنتشر فيها، وهو ما سيؤدي إلى فقدان ماء وجه الحكومة والأمة كلها.. كما أن الاحتمال الأكبر أن تلك المطالبة لن تبقى طي الكتمان، إذا ما أخذنا في الاعتبار تقاليد نشر الأخبار في الولايات المتحدة، مقارنةً بتلك المعمول بها في الصين. وهناك احتمال لأن تشعر الصين بالقلق من احتمال تعرضها للتوبيخ العلني من قبل الولايات المتحدة لعدم توقيعها لاتفاقية تبادل المجرمين، نظراً لأن منظومة العدالة بها ليست نزيهة بالدرجة التي تسوغ عقد اتفاقية ثنائية بينها وبين الولايات المتحدة. ومن المعروف أن الولايات المتحدة لديها اتفاقيات لتبادل المجرمين مع ما يزيد عن 100 دولة من دول العالم، وهي دول ليست كلها ديمقراطيات لا تشوبها شائبة، كما لا تمتلك كلها منظومات عدالة ممتازة. لكن تلك الدولة كلها –تقريباً- دول محترمة من حيث الجوهر، وحريصة على أن توفر محاكمة عادلة للمتهمين وهو ما لا يتوافر في منظومة العدالة الصينية. ومن المفهوم للكافة أن القضاء الصيني يخضع لاحتياجات الأمة التي يحددها الحزب الشيوعي الصيني والرئيس شخصياً. في الحرب الباردة الجديدة توجد أحياناً بعض الطرق للالتفاف حول الصعوبات السياسية وجوانب الحرج. وربما تصل الصين والولايات المتحدة يوماً ما إلى آلية غير رسمية تعتمد على التعامل مع كل حالة على حدة، بشأن إبعاد الخارجين عن القانون الصينيين المشتبه بهم من الولايات المتحدة، لكن مما لا شك فيه في الآن ذاته أن المنظومة القضائية في الصين، والحتمية السياسية المتمثلة في ضرورة بقاء الحزب الشيوعي بأي ثمن، تقفان كعقبة في طريق التعاون الرسمي. وطالما أن الأمر كذلك، فعلينا أن نتوقع أن العملاء السريين سوف يواصلون القدوم إلى الولايات المتحدة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»