كلام مكرور أن نقول عن ناصرالدين الأسد (أبا البشر) إنه «علاّمة»، وإنه أدى للغة العربية خدمات جلّى، وإنه المؤسس الحقيقي والرئيس الأول والفعلي للجامعة الأردنية، وإنه صاحب فضل عظيم على مؤسسات أردنية وفلسطينية وعربية عديدة.. إلخ. وقد أجتهد فأقول: «من يذهب إلى تعريف المعرّف، عقله مخرّب»! فحين نرثي، يجب أن نقدّم للناس كل ما هو جديد وغير معروف عن الراحل، كلٌ من موقع تجربته الشخصية المباشرة معه. لذلك، أكتب اليوم عن ناصرالدين الأسد الزميل في الجامعة، ورفيق السفر، والشريك في «المدارس العصرية»، والمستشار في «الموسوعة الفلسطينية»، وصاحب الإضاءات الشهيرة بصفته رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، و«مؤسسة آل البيت».. وعن «ناصرالدين الأسد» الإنسان الذي له، والذي عليه! طبعاً، ما أقدمه، ها هنا، ليس سوى خلاصات تحمل معلوماتي وانطباعاتي عنه بما لا يُعظم من هو عظيم أصلًا، ولا يمتدح من ذكراه عطرة بدءاً، ولا يُبالغ بالحديث عن إنجازاته المهولة حقاً وفعلاً ! طبعاً، أعلم –مع غيري- حقيقة أن أستاذنا «الأسد» أستاذ كبير وشخصية عامة. لذلك، من الطبيعي أن نجد من يعتقد ويقول (من باب الخبرة والتعاطي معه أيضاً) إن الدكتور الأسد «يركن للماضي وتلميعه»، وأنه متمسك تماماً بـ«الراسخ من الذوق، والقارّ من النظر»، بل إنه «ديكتاتور أدبي وعالم محقق» ينكر «على الحديث أن يحدث، وعلى التجديد أن يتشكل خارج ما ارتضاه الأقدمون». وهو، على أية حال، لم يكن ينكر هذا، بل لعلي لاحظت «افتخاره» به. ومما لا ريب فيه أنه، في انحيازه لقديم التراث العربي ولدينه الإسلامي، كان دوماً أستاذاً صارماً، وصاحب هيبة طاغية، وغالباً بتقاطيع وجه جادة وحاسمة. وأيضاً، أعلم أن أستاذنا «ناصرالدين» كان يستحق من المجتمع الأهلي، ومن المؤسسات الرسمية، على حد سواء، تقديراً أكثر وامتناناً أكبر.. ولا تزال الفرصة قائمة أمام كل من هو مفتوح العقل والقلب. ولعل أكثر ما آلمني في رحلة «البوح المشترك» بيننا، حديثه عن مشاعره إزاء «الظلم» الذي لاقاه في أكثر من مناسبة، لكن كبرياءه العظيم كان يمنعه من أن «يدبّ الصوت» في هذا الاتجاه. ثمة بعض مرارة في حلقه، وثمة بعض وجع في قلبه. بل إن ما آلمني أكثر، كون هذه الحقيقة المعلومة تتجلى في أكثر من حلق وأكثر من قلب لأكثر من مبدع من مبدعينا على امتداد ضفتي نهر الأردن، بل على امتداد الوطن العربي. فهلاّ قدمنا لهم ما يستحقون؟ بهذا، أخاطب الدول، مثلما أخاطب مؤسسات المجتمع المدني. وأعتقد أن ناصرالدين الأسد –وغيره الكثير الكثير من مبدعينا– يستحقون تقديراً مادياً (ولا حياء في ذكر هذا) وتقديراً معنوياً (وهو حق أصيل) أكثر بكثير مما قدمناه لهم.. خاصة في ظل هذا «التسونامي» المالي و«التسونامي» الإعلامي اللذين يجتاحان الوطن العربي محاولين تخريبه وتخريب مثقفيه. التقيته، أول مرة في مصعد الرئاسة في الجامعة الأردنية عام 1969 (وكنت يومها أزور صديقي الدكتور محمود السمرة). يومها، لم يترك «أبا البشر» لديّ أي انطباع إيجابي! هل تصدّقون ذلك؟! لقد وجدته يمزح مزحاً «ثقيلاً ».. ويمشي، بأناقته الشخصية والأكاديمية «المفرطة»، كأنه «الطاووس»! وطبعاً، أضع كل هذا بين مزدوجين لأنه –فيما ثبت لي لاحقاً- إنما أراد أن يظهر جانباً من جوانبه البشرية الأخرى: كونه إنساناً لا يحتاج لأن يراه الناس كرئيس أو أستاذ فحسب، وإنما كإنسان طبيعي، يظهر ما يبطن من ضعف إنساني ويحب الجمال أنّى رآه. هذا ما تأكدت منه، بل أيقنته، عبر تفاعلات العلاقة في السنوات الطويلة اللاحقة. وكم ظلمته يومها (مثلما نظلم كثيرين هذه الأيام.. وقبلها.. وبعدها). وكم أدركت –لاحقاً- أننا نريد أن نعامل «الناس.. كأسنان المشط» رغم أنهم –حقيقة– ليسوا كذلك! فنحن بشر.. لنا ما لنا، وعلينا ما علينا، وكلنا خطّاؤون! «الحركة التصحيحية» في خبرتي ومعرفتي بالأخ الصديق الدكتور الأسد لم «تتبلور» تماماً قبل رحلتنا، سوياً، إلى لندن بدعوة من إحدى القنوات التلفزيونية العربية، وكانت في أوجها. ففي تلك الرحلة، معظم ساعات الليل والنهار، وعلى امتداد أسبوع كامل، كنا سوياً. تبسط عميق في الحديث، تفاعل حقيقي في الفكر، نقاش طويل في السياسة، تصادم «حاد» فيما يتصل بشؤون عدة، وخلاف صريح في قضايا أكثر. وفي نهاية المطاف، انتهينا إلى حالة من البوح الإنساني الراقي. يومها، أدركت أن انطباعاتي السلبية عن أستاذنا الأسد «خارجة» عن الأصل، بل أبعد ما تكون عنه، فالأصل طيب وهو تماماً «كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.. تؤتي أكلها كل حين»! وهذا، قطعاً، لا يعني أن أستاذنا الكبير ليس من جنس البشر! إنه يعني، بالمختصر، أن يعني أن ناصرالدين بشر، بشر، بشر، فيه ما فيه من عيوب، لكنه بشر يرقى دوماً إلى كل ما هو متميز وفي الغالبية الساحقة من الشؤون والمواصفات. وحسبي أن أسجل احترامي الكبير، ومحبتي العميقة، لتلك القامة الكبيرة والمتميزة حقاً وبكل المعايير البشرية! وها أنذا أقول: حسبك يا «أبا البشر»، حسبك أن تكون أباً رائداً لكل ما هو بِشْرٌ (اشتقاقاً من السعادة)، وشيخاً لكل من هو متفائل (اشتقاقاً من «البشارة») وعميداً لجيل من كبار «طين البشر». وستبقى دوماً في أعيننا «طينة» فريدة: قوامها الأستاذية المتفوقة، والطيبة المهيمنة، والصرامة الملتزمة، والعسل الإنساني! والرحمة لك، والفخر الدائم لنا بكل ما أنجزت بتفوقٍ عزّ نظيره. وننتظر من كل الجهات التي تقدر مثل هذه الإنجازات أن تقدم ما تراه من تقدير لذكراه، سواء أكان ذلك معنوياً أم مادياً، له ولغيره من المبدعين.