«إن غرقت في البحر سيموت واحد من أسرتي، وإن عشت ووصلت إلى أوروبا سنحيا جميعاً».. هذه عبارة موجعة قالها أحد الشباب المصريين ممن وقعوا فريسة لسماسرة «الهجرة غير الشرعية»، التي باتت ظاهرة تشكل قاسماً مشتركاً بين الدول كافة المشاطئة لجنوب البحر المتوسط، وأفريقيا جنوب الصحراء، بل العالم الثالث كله، وتقلق أوروبا على وجه الخصوص، إلى درجة أن وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند قد قال في تصريح له مؤخراً إن «المهاجرين الأفارقة يهددون مستوى المعيشة والنسيج الاجتماعي الأوروبي». أما رئيس حزب «رابطة الشمال» الإيطالي ماثيو سالفينى، فذهب إلى ما هو أبعد من هذا حين دعا «أفريقيا إلى الانتباه لأهمية تحديد النسل»! وتعود هذه الظاهرة إلى أسباب عدة، أولها اقتصادي، حيث تتسع رقعة الفقر والبطالة في مجتمعات جنوب المتوسط وأفريقيا، وتبدو بعض الدول عاجزة عن تلبية احتياجات وطموحات شريحة من الشباب تخرجت في الجامعات والمعاهد والمدارس العليا، ولم تستوعبها سوق العمل، ويبدو طريقها شبه مسدود في تكوين حياة طبيعية لائقة، لا سيما مع غياب مشروعات حقيقية للتنمية، وتطبيق برامج التكيف الهيكلي، وتعاظم الاحتكارات، ووجود خلل جسيم في توزيع الثروة، أو في تساقط ثمار التنمية على القاعدة الغالبة من السكان. والسبب الثاني سياسي، حيث الاضطرابات التي تضرب بقسوة الكثير من دول جنوب المتوسط وأفريقيا، جراء الصراع على السلطة من جانب، ومحاولة قطاعات اجتماعية التمرد على الأوضاع الظالمة القائمة من جانب آخر، وكل هذا بسبب عدم اكتمال عملية إنتاج الدولة المدنية الحديثة التي ترتب سبلاً طوعية لانتقال السلطة، وتضمن التمثيل السياسي لمصالح الفئات والشرائح الاجتماعية كافة، وتصون الحريات العامة في التفكير والتعبير والتدبير. وفي المقابل، يدرك المهاجرون أنهم ذاهبون إلى بلدان إنْ وجدوا فيها موطئ قدم ستتغير حياتهم بالكلية. أما السبب الثالث، فهو اجتماعي يرتبط تارة بالتهميش المستمر وظاهرة ترييف المدينة، وتارة أخرى بانسياب حكايات مثيرة وأسطورية حول عملية الهجرة وما يترتب عليها، لا سيما أن هناك قصص نجاح فعلية، يتم تداولها على نطاق واسع، سواء بالطرق التقليدية أم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وطالما ينجذب الشباب الراغب في الهجرة إلى قصة نجاح واحدة لمهاجر، ويزيحون عمداً قصص فشل لا تحصى، انتهت بمآسٍ وفواجع. وهناك سبب رابع نفسي لا يمكن إنكاره، ويلعب سماسرة الهجرة عليه، حيث يضيق بعض الشباب بطبيعة الحياة في بلدانهم، في ظل امتلائهم بشعور جارف بأنهم يستحقون أكثر مما هم عليه، وينظرون إلى مستقبل بلدانهم بتشاؤم مفرط، ينسحب على نظرتهم إلى الآتي في حياتهم الخاصة. والسبب الخامس يتمثل في ثورة الاتصالات والإعلام الجديد التي حولت العالم إلى غرفة صغيرة، وجعلت قطاعات عريضة من شباب دول العالم الثالث على دراية بأنماط العيش في المجتمعات المتقدمة، ويقارنونها بما يكابدونه في بلدانهم، ومن ثم تتزايد داخلهم الرغبة في الهجرة، لاسيما في ظل القرب الجغرافي لأوروبا من أفريقيا، وكذلك ما يعلمه الراغبون في الهجرة عن ظاهرة تناقص السكان في القارة العجوز، ووجود أعمال هامشية في الفلاحة والتشييد والبناء والخدمات لا يقبل عليها الأوروبيون، وتبقى فرصاً متاحة أمام المهاجرين. وهناك سبب سادس يتعلق بفرض البلدان الأوروبية قيوداً صارمة على الهجرة الشرعية واللجوء، ما حدا ببعض الشباب إلى أن يسلكوا هذا الطريق السري في سبيل الوصول إلى أرض أوروبا بأي شكل من الأشكال. كما أن بعض الأوروبيين من أرباب الأعمال باتوا يفضلون المهاجرين غير الشرعيين، فأجورهم زهيدة وأعمالهم مؤقتة لا تتطلب ضمانات ولا تأمينات ولا ما تفرضه عقود العمل من التزامات. والسبب السابع يتمثل في وجود شبكات متكاملة ترتب الهجرة غير الشرعية وتقوم بالدعاية لها والترغيب فيها، وتستثمر فيها الكثير، معولة على أن العائد منها بات كبيراً، والطلب عليها لا ينقطع. وهناك سبب ثامن، لا يأتي أحد على ذكره، ويرتبط بما يسميه عالم الاجتماع المصري أنور عبد الملك «فائض القيمة التاريخي»، حيث تراكمت الثروات في أوروبا جراء نهب دول العالم الثالث خلال الحقبة الاستعمارية، فيما تحارب الدول الصناعية المتقدمة أي برامج تنمية حقيقية في البلدان النامية والفقيرة حتى تظل سوقاً رائجة لمختلف منتجاتها. ولعل العبارة التي ذكرها العالم الفرنسي المتخصص في الدراسات السكانية «ألفريد صوفي» تلخص الأمر برمته حين قال بشأن ظاهرة الهجرة غير الشرعية: «إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر، وإما أن يرحل البشر حيث توجد الثروات».