يعتبر التمتع بأقصى درجة ممكنة من الصحة حقاً من حقوق الإنسان الأساسية حسب ما نصت عليه ديباجة دستور منظمة الصحة العالمية، وهذا الربط بين الصحة وحقوق الإنسان تضمنته الاتفاقيات الدولية المختلفة المتعلقة بحقوق الإنسان، من خلال فقرات وبنود تُعنى بالحقوق الصحية، بما في ذلك الحق في العيش في ظروف ملائمة ومناسبة للتمتع بالصحة الجيدة. وهذا الحق الذي أصبح يعرف بالحق في الصحة (the right to health)، يمكن توفيره من خلال مجموعة من الترتيبات الاجتماعية، مثل المعايير والسياسات، والمؤسسات الصحية، والقوانين الأساسية، والبيئة الممكنة، التي تضمن جميعها وبأكبر قدر ممكن، تمتع أفراد المجتمع بكامل هذا الحق، مع الأخذ في الاعتبار ما هو متاح من مصادر، وحتمية التدرج في التحقيق والإنجاز، ولا يقتصر الحق في الصحة على الرعاية الصحية المناسبة فقط، بل يمتد أيضاً ليشمل ما يعرف بمحددات الحالة الصحية، مثل توافر مياه الشرب النظيفة، والغذاء الكافي، والمسكن الملائم، والمعلومات الصحية الضرورية، وغيرها من العوامل التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في الحالة الصحية العامة. ولكن إذا ما كان من حق الفرد على المجتمع توفير أفضل ظروف ورعاية صحية تحقق له أفضل مستوى من الصحة، فما هو حق المجتمع على الفرد، لجهة المساهمة في تحقيق أفضل مستوى من الصحة العامة لجميع الأفراد؟ وأين تنتهي حدود الحرية الفردية، ومتى تقيد وتحصر الاختيارات الشخصية، عندما يحتمل أن يؤدي السلوك الفردي والاختيار الشخصي إلى تهديد الحالة الصحية للمجتمع برمته؟ إن أهمية هذا السؤال تتضح بشكل جلي عندما يتعلق الموضوع بالتطعيمات الطبية، أو بشكل أدق بالإعراض، أو تحاشي، أو تجنب التطعيمات الطبية. وهذه الظاهرة، التي تتجسد في تأخير تلقي التطعيمات، أو تحاشيها تماماً، على رغم أمانها، وفعاليتها، وتوفرها، حظيت باهتمام إعلامي وسياسي واسع منذ بداية العام الجاري، وكانت موضوع عدد خاص نشر بداية الأسبوع الحالي من إحدى الدوريات العلمية المتخصصة في مجال التطعيمات الطبية (Vaccines)، تم تحريره من قبل علماء وخبراء منظمة الصحة العالمية، التي تشير تقديراتها وإحصائياتها إلى أن واحداً من كل خمسة أطفال في العالم، أي نسبة عشرين في المئة، ما زالوا لا يتلقون التطعيمات الأساسية الحافظة للحياة، وهو ما ينتج عنه وفاة 1,5 مليون طفل سنوياً، بسبب أمراض مُعدية كان في المستطاع الوقاية منها بكل سهولة من خلال التطعيمات الطبية. وانطلاقاً من هذا الواقع المؤسف سعى خبراء المنظمة الدولية في العدد الأخير من المجلة العلمية، لفهم وتفسير دور ظاهرة الإعراض عن أو تحاشي التطعيمات (vaccines hesitancy)، في الحد من مجال ومدى ونسبة التغطية التطعيمية، وأثر ذلك على الصحة العامة، وعلى الجهود الرامية للقضاء على بعض الأمراض المعدية مثل شلل الأطفال، والحصبة، مع محاولة استكشاف إستراتيجيات جديدة للتعامل معها. وما خلصت إليه هذه المراجعة أن ظاهرة تجنب التطعيمات، هي قضية معقدة، محددة بالسياق أو المقام، وتتباين وتتفاوت حسب الزمن، والمكان، والتطعيم المعني. حيث تتأثر بالعديد من العوامل، مثل التضليل المعلوماتي أو المعلومات الخاطئة، ودرجة الرضا والاقتناع الذاتي، ومدى الملاءمة والمواءمة مع ظروف الشخص، ودرجة ثقته واطمئنانه، وبالإضافة إلى هذا وذاك، أخذت القضية بُعداً سياسياً في الولايات المتحدة، بعد انتشار وباء من فيروس الحصبة منذ نهاية العام الماضي، أصاب حتى بداية الصيف الماضي حوالي 173 شخصاً، في 21 ولاية، بعد أن كانت الولايات المتحدة خالية تماماً من الفيروس، ومن أي حالات إصابة، لمدة خمسة عشر عاماً. ووجهت أصابع الاتهام حينها للاتجاه المتنامي بين بعض الآباء لتجنب تطعيم أبنائهم، خوفاً عليهم من الآثار الجانبية للتطعيمات، وهي مخاوف لا أساس لها من الصحة، وأمام تصاعد المطالبات بضرورة إجبار الآباء على تطعيم أبنائهم بقوة القانون، خرج بعض السياسيين– طمعاً في أصوات الناخبين من هذه الفئة - بتصريحات مفادها أن قرار الأبوين في هذا الموضوع يندرج تحت مظلة «قضايا الحرية»، وأن قرار التطعيم أو عدم التطعيم الأبناء يجب أن يظل «اختياراً شخصياً للأبوين»، وهو ما يعود بنا للسؤال السابق، أو أين تنتهي حدود الحرية الفردية، ومتى تقيد وتحصر الاختيارات الشخصية، عندما يحتمل أن يؤدي السلوك الفردي والاختيار الشخصي إلى تهديد الحالة الصحية للمجتمع برمته؟