تتيح الجهود والاتصالات المكثفة الجارية حول الأزمة السورية بمعدلات غير مسبوقة استكشاف مدى وجود فرصة لحل سياسي ظل بعيد المنال لأكثر من أربع سنوات. غير أنه ليس متوقعاً أن تسفر هذه التحركات عن تحديد بداية طريق إلى هذا الحل في المدى القصير الذي سيبقى مسار الصراع على سوريا خلاله محكوماً بمعادلات السلاح والقتال على الأرض. وربما يكون هذا المسار المسلح خلال الشهور القادمة مُحَدِداً أكثر من أي وقت مضى لما ستكون عليه سوريا حين يصبح الحل السياسي ممكناً، وهل ستبقى فرصة لإعادة توحيدها أم أن تقسيمها إلى دويلات سيصبح خياراً وحيداً. وربما تفيد التحركات السياسية الراهنة في إعطاء أمل كان قد تبدد في إمكان تجنب تقسيم سوريا، أو على الأقل إيجاد مشروع جديد يجمع أشلاءها المفتتة الآن في إطار صيغة اتحادية (فيدرالية) تحفظ لكل منها استقلالاً ذاتياً، أو حتى صيغة كونفدرالية (تعاهدية) يصل فيها هذا الاستقلال إلى أعلى مستوى. وفي كل الأحوال، وإلى أن يتبين مدى إمكان تحقيق تقدم عبر التحركات السياسية الجارية، سيتواصل القتال وربما يزداد ارتباطه بالصراعات المشتعلة في بلاد أخرى. والحال أن ما ستكون عليه سوريا مستقبلاً يرتبط بالاضطراب الذي يجتاح منطقة الشرق الأوسط وجوارها المباشر، بقدر ما يتصل بالجهود السياسية. فالمنطقة كلها في حالة فوران ينبئ بحروب طويلة وصراعات ممتد بعضها ومتقطع بعضها الآخر.‏? لذلك ستظل «الكانتونات» التي تتشكل الآن متغيرة في أوضاع ميدانية تتسم بالسيولة، الأمر الذي يحول دون تبلور دويلات محددة قابلة للاستقرار. ويُبقي هذا الوضع الآفاق مفتوحة أمام حل سياسي. وهو يشبه ما يحدث عند انفراط حبات عقد بطريقة عشوائية تجعل من الصعب جمعها كلها، وإعادة توزيعها بطريقة منظمة، وبصورة منتظمة، إلى أن يظهر «صانع» ماهر يقدر على إعادة جمعها في إطار حل سياسي. ومن أهم سمات السيولة التي تتسم بها الأوضاع الميدانية على أرض الحرب السورية، صعوبة الاحتفاظ ببعض المناطق التي ينتزعها أحد الأطراف من غيره. لذلك تظل الخطوط الفاصلة بين أطراف الحرب متحركة ترسمها متاريس يمكن إزالتها، أو خنادق يمكن عبورها أو ردمها. ويختلف ذلك مثلاً عن حالة البلقان التي صارت «نموذجاً» يُقاس عليه تحت عنوان «البلقنة»، واستند إليها كثير ممن توقعوا خريطة جديدة في سوريا والمنطقة عموماً. ففي البلقان، كانت هناك كيانات سياسية واجتماعية متبلورة على الأرض، ونشأت على أساسها دويلات قابلة للاستقرار والتحول إلى دول مستقلة، ولم تكن بحاجة إلى أكثر من إضفاء مشروعية دولية عليها.‏? ولا تشبه الأوضاع الميدانية في سوريا هذه الحالة، حتى في المناطق التي يبدو أن بعض الأطراف تسيطر عليها كلياً، بما في ذلك مناطق سيطرة تنظيم «داعش» في الشمال والشمال الشرقي، ومناطق سيطرة القوات المدافعة عن نظام بشار الأسد في الجنوب والجنوب الغربي. فلم يعد «داعش» يسيطر بشكل كامل وحصري على أي من المحافظات العشر التي يوجد مقاتلوه فيها. وربما يجعل تغير سياسة تركيا، وقبولها استخدام قاعدة «إنجرلك» في قصف مواقع «داعش»، دفاعه عن بعض هذه المواقع واحتفاظه بها أكثر صعوبة. وإذا كانت سيطرة نظام الأسد قوية الآن على مناطق يعدها ملاذه الأخير، فقد لا يبقى الأمر على هذه الحال. ولا ننسى أن هذين الطرفين، اللذين استحوذا على ثلثي مساحة سوريا في العام الأخير، هما أكثر أطراف الحرب اعتماداً على قوات أجنبية متعددة الجنسيات. ?وتُعد ?هذه ?أهم ?نقاط ?الضعف ?الكامنة ?في ?بنية ?كل ?منهما. وفي مثل هذه الأوضاع، تظل مناطق نفوذ الأطراف جميعها من نوع «الكانتونات» المتغيرة التي يصعب تحولها إلى دويلات ثابتة ومحددة، الأمر الذي يجعل الحل السياسي ممكناً حين تتوفر مقوماته الإقليمية والدولية.