يوحي المشهد داخل العراق بأن هناك أملاً في التغيير، تغذّيه حماسة الشباب الذي يخوض الاحتجاجات ويواظب عليها غير مكتفٍ بما أعلن من «إصلاحات». وكما في معظم الحركات العربية المشابهة، قيل ولا يزال يقال إن أهم ما في الحراك العراقي أنه بدأ وانتشر وتوسّع واستطاع أن يؤثّر من دون أن تكون له قيادة محدّدة أو يتزعّمه حزبٌ معيّن. أي أنه نابع من قلب المجتمع وليست له أهداف تخدم هذه الجهة السياسية أو تلك، ولعل هذا ما جعل الأحزاب والتنظيمات تحاذر المسّ به، إذ شعرت جميعاً بأنه يحاكمها كافة، وبأنها ستنكشف إذا هاجمته أو حتى إذا حاولت ركوب موجته. نفد الصبر، إذن، ولم يكن متَصوَّراً أن يقتصر الاحتجاج على مجرد انقطاع التيار الكهربائي في بلد مصدّر للنفط بل كان لابدّ من أن يمتد إلى الأسباب. وهكذا أصبح الحراك «انتفاضة ضد الفساد». كان الأكثر إحراجاً للحكم أن التظاهرات خرجت من معاقل الأحزاب المشاركة في الحكومة، وأنها بدأت بلون مذهبي واحد قبل أن تصل إلى بغداد لتتنوّع ولو بمقدار ضئيل لكنه معبّر. ماذا يعني ذلك؟ لابدّ أن الأحزاب صدمت بواقع أن ما تعتبره جمهورها لا يعكس حقيقة المجتمع، وأن مَن تحشدهم للهتاف لزعمائها جاؤوا من بيوت وأحياء تعاني الإهمال ونقص الخدمات، وأن التأييد السياسي ليس تفويضاً كاملاً بل ليس اعتناقاً خاصاً لأفكارها. وإلا فمن أين جاء ذلك الشعار الذي يختصر ألوف الخُطب إذ يقول «باسم الدين سرقونا الحرامية»، ومن أين انطلقت تلك الدعوات إلى حكم يقوده «مدنيون»؟ ولماذا ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالإصرار على «استقلالية» الاحتجاجات والحرص على «المستقلّين»، الذين يخوضونها مع التحذير من أن يندسّ فيها الحزبيون «مسلوبو العقل والإرادة»، كما يصفونهم. هذه حالة وعي لم يُفاجَأ بها إلا من يجهل حقيقة الشعب العراقي الذي لم تتمكن عقود الاستبداد السابقة ولا عقد الطائفية الطاغية الحالي من إلغاء عقله وطموحه وقدرته على التمييز العفوي بين ما هو طبيعي وما هو مفتعل. كان لابد لهذا الوعي الكامن من أن يعود إلى الواجهة، لأن البلد يعيش فشلاً فادحاً لا يختزله فقط احتلال تنظيم «داعش» لأجزاء منه بل يجسّده إخفاق الحكم وإفلاس الخزينة واستشراس الفساد والتكالب على السلطة. ولذلك جاءت الاحتجاجات أيضاً بلغة جديدة كان يُظَنّ أنها اندثرت، لغة واقعية تمثّل النقيض لما جاءت به تجربة ما بعد الغزو والانسحاب الأميركيان، والنقيض أيضاً لحال الهيمنة الإيرانية الراهنة. عشية كل تظاهرة تتردّد في «البوستات» و«التغريدات» شعارات مثل «علمانية علمانية لا شيعية ولا سنية» أو توصيات منها «احذروا العمائم السود والبيض»، مرفقةً بنقاش يريد تصحيح المسار، سواء برفض الدعوات إلى إطاحة النظام أو إسقاط الحكومة، أو بالتشجيع على التفكير في «البدائل» والحضّ على الممكن (الإصلاح) للبناء عليه وتطويره. ولم يكن نقاشاً سطحياً بل غاص في الاسترشاد بالتجارب الأخرى، وكان مهماً أن نقرأ مثلاً أن «رجال الدين فشلوا في إدارة الدولة كما فشل (محمد) مرسي في مصر، وآن أوان التكنوقراطيين لأنهم أكثر كفاءة». وبعدما أعلن حيدر العبادي الحزمة الأولى من الإصلاحات كان هناك من استخلص أن «داعش» تلقى بذلك أقسى الضربات «لأنه استمد دائماً قوته من ضعف الدولة والفساد الحكومي والتصارع الحزبي والبيئة الطائفية» مع التمنّي طبعاً بأن تنفّذ الإصلاحات وتأخذ مداها. هنا يبدأ التفكير في المتضرّرين من الإصلاح. هنا أيضاً يبدو المشهد العراقي من الخارج أكثر تعبيراً عن الواقع، لأن المسيطرين على الحكم هم الذين صنعوا أزمته بأنفسهم مستخدمين المحاصصة الطائفية من جهة لتوزيع المناصب من دون النظر إلى الكفاءة، والمنافع المادية من جهة أخرى لشراء الولاءات. وعندما يطول النقاش مع عراقيين مختلفي الانتماءات فهو ينتهي دائماً إلى نقطة شك يختصرها البعض بالتساؤل: «هل يستطيع العبادي الخروج من عباءة حزب الدعوة وأجندته، وإذا كانت تغطية المرجع علي السيستاني شجّعته على إعلان إصلاحات سياسية وإدارية ومالية وقضائية فهل تمكّنه من تطبيقها، وهل تعلو كلمة المرجع على كلمة طهران»؟ كان رئيس الأركان الإيراني حسن فيروزبادي دعم العبادي، لكنه قال إن «فئات غير مسلمة» تحرّك التظاهرات، وفي ذلك دعوة إلى إبقاء خيار ضربها وارداً. أي إصلاح ينجح إذا باشر معالجة كل المعضلة وليس بعضها حتى لو استغرق وقتاً. ولذلك يبدو التصدّي للفساد وكأنه ضربٌ مباشر لركيزة النظام الحالي.