قال لي الروائي الجزائري البارز «واسيني الأعرج» إن الرواية العربية تعرف حالياً أوج مجدها على رغم انهيار الوضع العربي، وإن إنتاج الجيل الجديد من الروائيين الشباب يدل على أن الثقافة العربية تشهد ثورة إبداعية في الأجناس السردية، وما بدا لي هو أن هذه الثورة الروائية - على إيجابياتها الجمة البديهية - تعكس مأزقاً حاداً في الوعي بالهوية، باعتبار أن الإشكالات المجتمعية الراهنة أصبحت متمنعة على المقاربات النظرية والتأويلات الفكرية، ولذا كان من العادي أن يحتل الأدب في انفعاليته القلقة موقع المبحث الفلسفي والمعالجة التأملية النسقية. عرفت روسيا في القرن التاسع عشر وضعاً مماثلاً، وشهدت أوروبا ما بين الحربين حالة مشابهة، وأدت الرواية في أميركا اللاتينية الدور ذاته في النصف الثاني من القرن المنصرم. وبهذا المعنى ندرك أن الثقافات الكبرى خرجت كلها من نصوص سردية قوية هي مادة ثرية للتأويل والنظر والتدبر، بما فيها الحضارة اليونانية التي أبدعت الفكر الفلسفي بعقلنة الأساطير الكونية الكبرى، انتهاء بالحضارة الحديثة التي علمنت بعض السردية الدينية وفق المقاييس الذاتية الفردية. وإذا كانت نشأة علم التاريخ ارتبطت في أصلها بحدثين أساسيين هما: المدينة الديمقراطية (اليونانية) القائمة على الحوار العقلاني العمومي والتصور الخطي للزمن في الديانات التوحيدية، فإن نشأة الرواية الحديثة ارتبطت عضوياً بقيام الدولة القومية المدنية في حاجتها إلى بناء سردية عمومية محايثة. والمشهد نفسه تكرر مع الرواية العربية التي عكست لدى نشأتها نشأة الدولة الوطنية الحديثة، مما عبرت عنه على الخصوص روايات نجيب محفوظ التي سجلت تحولات المجتمع المصري في النصف الثاني من القرن العشرين. والطابع المهيمن على الرواية العربية الجديدة هو المأزق الذي أفضت إليه موجة «الربيع العربي» الأخيرة التي فجرت إشكالية الهوية في بعديها الفردي والاجتماعي، أي في مستوى وعي الفرد كذات مستقلة تتشكل في أفق المواطنة، وفي مستوى الانتماء الجماعي ضمن هويات عضوية لم يعد البناء السياسي المتهدم قادراً على التعبير عنها في لغة الحالة التعاقديّة القانونية المجردة التي هي الدولة الوطنية المحايدة ثقافياً ومعيارياً. والمستوى الأول من مأزق الهوية يبدو جلياً في انحسار نموذج المواطن أي الذاتية الفردية الحرة التي تصوغ هويتها في إطار «حقوق الكرامة» التي هي المنظور القيمي للمنظومة الليبرالية بلغة «تشارلز تايلور» الذي يميز بينها و«حقوق الأصالة» التي تعبر عن حقوق المجموعات الثقافية (القومية والدينية واللغوية)، ولم تتمكن الديمقراطيات العربية الوليدة من إبداع أطر قوية للمواطنة، بل إن النزعات الخصوصية الضيقة من قبلية وطائفية وانتماءات قومية قد خرجت للعلن وتوطدت من خلال آليات المنافسة التعددية التي اختزلت فيها الحريات الديمقراطية. أما المستوى الثاني من مأزق الهوية فيبدو جلياً في تآكل الهويات الجماعية المرتبطة بالدولة الوطنية الحديثة وهي الهويات التي عبرت عنها الأدبيات الفلسفية للقرن التاسع عشر بمقولة «المجتمع المدني» وتعني التناقضات الطبقية والمجتمعية التي تستبطنها الدولة وتحتضنها في ديناميكيتها الداخلية، في مقابل الهويات العضوية ما قبل الدولة التي تعصف بأسس الدولة وتقوضها. في رصده لأزمة الرواية الأوروبية، تساءل «ريكور» بقلق ماذا سيكون شأن ثفافة انحسرت فيها القدرة على الحكاية، منبهاً إلى العلاقة العضوية بين السرد والمعنى من جهة والسرد والفعل من جهة أخرى، وما نعيشه راهناً في الثورة الروائية الجديدة ليس هذا الخطر وإنما قلق تأويل واقع ملتبس متهاوٍ ومأزق هوية انفصامية عاجزة.