غالباً ما تتحدد المهن التي نعمل فيها، بالمآسي الشخصية التي تمر بكل واحد منا. فالشخص الذي يفقد أحد والديه بسبب مرض السرطان مثلاً، قد يقرر أن يصبح اخصائي أورام، والشخص الذي ينشأ في وسط تنتشر فيه الجريمة، قد يقرر التخصص في علم النفس الجنائي، وهكذا، وكثيرا ما ترد على ذهني هذه الفكرة، عندما يتعلق الأمر بعلماء الاقتصاد الكلي الأرجنتينيين، فإذا ما حضرت فعاليات مؤتمر عن الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة مثلًا، وقرأت الأوراق المقدمة، فستلاحظ على الفور أن العلماء الأرجنتينيين ممثلون بكثافة كبيرة في هذه المؤتمر. وهناك أسماء أرجنتينية كبيرة في هذا المجال مثل «إيفان ويرنينج» أحد النجوم البارزين في عالم الاقصاد الكلي، وهناك بالطبع «ناريانا كوتشيرلاكوتا»، رئيس الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس. ومن نجوم الأرجنتيين الكبار في هذا المجال أيضاً «جويليرمو كالفو» الأستاذ بجامعة كولومبيا الذي ابتكر واحداً من الأساليب الرياضية الرئيسية التي تقوم عليها النماذج الاقتصادية ل«الكينزية الجديدة».. والقائمة تشمل علماء آخرين كثيرين لا يتسع المجال لذكرهم. والسؤال الذي لابد أن يخطر على الذهن في هذا السياق هو: ما الذي أدى إلى هذا الكم الكبير من المواهب الأرجنتينية في مجال الاقتصاد الكلي؟ هنا تحضر فكرة المأساة الشخصية مرة أخرى، فالأرجنتين مثال كلاسيكي لدولة تعتبر حالة ميؤوساً منها في مجال الاقتصاد الكلي، بل ويجوز القول إنها الدولة الوحيدة التي أدت سياسات الاقتصاد الكلي السيئة إلى دخولها في حالة تدهور اقتصادي طويل الأمد. وقد شهد القرن الماضي فشلاً تاماً للاقتصاد الأرجنتيني، فمنذ قرن على وجه التقريب، كان ذلك البلد يحتل مكانة راسخة في صفوف الأمم المتقدمة، ويزهو بناتج محلي إجمالي يصل إلى ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي الأميركي (في نفس المكانة التي تحتلها اليابان وبريطانيا في الوقت الراهن). ولكن ما حدث منذ ذلك الحين هو أن هذا الرقم قد هبط من دون توقف، ما أدى إلى دخول الأرجنتين في مرحلة من الركود، في حين كان العالم يمضي قدماً، وفي الوقت الراهن تبلغ مستويات الدخل في الأرجنتين ثلث مثيلاتها في الولايات المتحدة، مما يجعلها تحتل مرتبة ثابتة ضمن الدول متوسطة الدخل. وقد عانت الأرجنتين من التضخم المفرط، ثلاث مرات في أواخر القرن العشرين، وفي حين شهد الناتج المحلي الإجمالي، في معظم البلدان، نمواً سلساً تتخله عثرات محدودة أحياناً، فقد كان المسار الذي اتخذه هذا النمو في الأرجنتين كان مساراً متعرجاً حسب النمط المعروف ب «نمط سن المنشار» الذي يشهد تذبذبات حادة بين الازدهار والكارثة. ففي السنوات الأولى من الألفية الجديدة، هبط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي -وليس نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي- بمقدار الثلثين، وهو ما مثل في حينه كارثة لم تكن معتادة الحدوث سوى في دول مثل روسيا وزيمبابوي. وهذا الهبوط الكبير كان سببه توقف الأرجنتين عن سداد الديون السيادية المستحقة عليها، وهي عادة أرجنتنية متأصلة حيث كانت قد حدثت من قبل في سنوات 1816 بعد أحد عشر عاماً من الاستقلال، ثم في عام 1890، وعام 1916 و1930 مع الكساد الكبير. ونجت الأرجنتين من الإفلاس عام 1956 بصعوبة بالغة، ثم عجزت عن سداد ديونها الخارجية عام 1982 وعن سداد ديونها الداخلية عام 1989، ثم جاء العجز الكبير عن السداد عام 2001 الذي وصل إلى أبعاد كارثية جعلت منه الأكبر في التاريخ في ذلك الحين. وهذا الاضطراب الاقتصادي كان مصحوباً بالطبع باضطراب سياسي إلى درجة تسوغ القول إن تاريخ الأرجنتين السياسي كان عبارة عن سلسلة متوالية من الانقلابات، والديكتاتوريات، والديمقراطيات غير المستقرة، والتدخلات الاقتصادية الضخمة، والاضطرابات، والقلاقل. وليس هناك ما يدعو للدهشة إذن أن يسعى بعض أفضل وألمع العقول الأرجنتينية إلى التخصص في مجال الاقتصاد الكلي. فما هو الشيء الذين يمكن أن يفعلوه بذكائهم غير ذلك؟ ففي هذا المجال يمكنهم على الأقل محاولة حل المشكلات المترتبة على اللعنة التي أصابت بلدهم. ولعل الشيء المؤسف أنهم بعد اختيارهم لهذه المهنة قد لا تتاح لهم الفرصة لتجربة مواهبهم، التي يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة لبلدان مستقرة مثل الولايات المتحدة، وليس بلداناً غير مستقرة مثل بلدهم. ولذلك فإن الأرجنتين تحتاج مع خبراء الاقتصاد الكلي إلى مؤسسات راسخة وإدماجية، ومجتمع مدني، وديمقراطية مستقرة، ودولة تحاول تشجيع النمو الاقتصادي بدلاً من الترنج من أزمة لأزمة.. وهي في مجملها أشياء لا يمكن لأي نظرية - على الأقل في الوقت الراهن - أن تقول لنا كيف يمكننا إيجادها. نوح سميث: أستاذ المالية المساعد في جامعة «ستوني بروك» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»