بادئ ذي بدء أعرف أنّ ما سأكتبه اليوم لن يستسيغه بعض من لا يزال يمنّي النفس بعودة «طالبان» إلى السلطة في كابول، رغم كل جرائمهم الموثقة دولياً بحق الإنسان الأفغاني المغلوب على أمره، وبحق بلادهم المنهكة التي كانت ذات يوم في ظل نظامها الملكي واحة أمن وسلام وحريات. لقد ارتكبت «طالبان» منذ أن جاءت بها المخابرات الباكستانية إلى السلطة عام 1996، لتحقيق أغراضها الخاصة المنطلقة من ضرورة الحفاظ على أفغانستان كحديقة خلفية استراتيجية خاضعة بالكامل لمرئيات إسلام آباد، وحتى انهيار سلطة الحركة تحت ضربات القصف الجوي الأميركي في عام 2001، ارتكبت من الحماقات ما لم يشهد التاريخ المعاصر له مثيلا، وذلك تحت مزاعم إقامة الإمارة الإسلامية المطبِّقة لشرع الله. وإذا ما استثنينا جدلا انتهاكاتهم الصارخة في مجال حقوق الإنسان، فإن حماقتهم الكبرى تمثلت في إيذاء جيرانهم والمجتمع الدولي من خلال احتضان الجماعات الخارجة على القانون وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» الإجرامي الذي خرجت من رحمه كل التنظيمات الإرهابية المقاتلة حالياً. واليوم يشهد العالم مجدداً استمرار الحماقات الطالبانية في أعقاب ما نُشر عن وفاة زعيم الحركة الملا محمد عمر في تاريخ ومكان مجهولين حتى اللحظة. وهل هناك حماقة أكبر من الصراع على سلطة وهمية غير موجودة أصلا بعدما تخلص الأفغان من عهد حرم عليهم، ليس حقهم في التعليم والعمل واختيار الملبس فحسب، وإنما أيضاً حقهم في الاستمتاع بوقت فراغهم كيفما شاؤوا؟! تقول الأخبار الواردة من باكستان، حيث يقيم قادة «طالبان»، وليس من أفغانستان كما يُفترض، أن الطالبانيين لا يزالون في صراع حول من يرث تركة الملا محمد عمر، حتى وإنْ قيل إن اختيارهم قد وقع على الملا أختر محمد منصور كزعيم جديد. والأخير لم يكن رجلا ذا شأن أيام الإمارة الإسلامية المقبورة، وكل ما عُرف عنه أنه تولى ذات يوم حقيبة النقل والطيران المدني في حكومة سلفه المتوفي، وهذه الحقيبة كانت هي الأخرى وهمية لأن الإمارة الطالبانية لم يكن لها شبكة طيران مدني، ولا شبكات نقل سوى الدواب والحمير أجلكم الله. وتقول تلك الأخبار أيضاً إن الصراع الخفي محتدم بين الملا منصور ومجموعة من الرموز البشتونية التي ترى أن الخلافة في الحركة يجب أن تكون وراثية، بمعنى أن تؤول قيادة «طالبان» إلى ابن الملا محمد عمر، وهو شخصية غامضة كغموض أبيه، أو على الأقل إلى واحد من ذوي التاريخ المشهود في «الجهاد» مثل مولوي هبة الله آخوندزاده أو من ذوي «المراتب الدينية المتقدمة» مثل مولوي جلال الدين حقاني. والحقيقة أن باكستان، التي لم تسحب أصابعها يوماً من أفغانستان، يقال إنها لعبتْ دوراً في التطورات الأخيرة، بل إنها هي التي أعدت السيناريوهات المتمثلة في الإعلان رسمياً عن خبر وفاة الملا محمد عمر الذي ظل طي الكتمان طويلا حفاظاً على معنويات مقاتلي الحركة، وهي التي هيأت الظروف لاختيار الملا منصور، المحسوب على مخابراتها منذ أمد بعيد، كأمير جديد لـ«طالبان»، رغم معارضة الكثيرين ضمن ما يُعرف بمجلس شورى «طالبان» في كويتا (عاصمة إقليم بلوشستان الباكستاني) ممن لم يجدوا في الأخير أي مؤهلات دينية. وهدف إسلام آباد من وراء دورها ذلك هو تعبيد الطريق أمام مفاوضات سلام ناجحة بين الحركة المتمردة وحكومة كابول الشرعية بزعامة أشرف غني، وبالتالي النجاة من أمرين؛ أولهما الضغوط الدولية والإقليمية على الحكومة الباكستانية للعب دور بنّاء في تحقيق السلام في الربوع الأفغانية، مع عدم التضحية بالرجال الذين أخلصوا لمخططاتها الاستراتيجية في أفغانستان على مدى سنوات، وثانيهما التخلص من عبء ميليشيات منفلتة وقابلة للاستغلال من قبل الجماعات الإرهابية داخل باكستان ذاتها لإحداث إرتباك في المشهد الهش هناك، خصوصاً أنّ بعض هذه الميليشيات بقيادة عتاة الطالبانيين المتعصبين قد خرجت في الآونة الأخيرة لتشق عصا الطاعة على إسلام آباد عبر نشر أخبار وتعليقات تعرب عن تذمرها مما وصلت إليه أحوالها بسبب حذر الباكستانيين من الذهاب بعيداً في دعمها، بل وتهدد بالالتحاق بتنظيم «داعش» الإرهابي. وما يمكننا إضافته في هذا السياق هو أن السيناريوهات الباكستانية لقيت وتلقى دعماً قوياً من الدوائر الأميركية المعنية باستقرار الأحوال في كلا البلدين، أفغانستان باكستان، والتي ربما كانت على علم مسبق بالخطط الباكستانية. هذا ناهيك عن أن باكستان ربما اكتشفت أخيراً أنّ من مصلحتها التركيز على تمتين جبهتها الداخلية وتعزيز استقرارها بدلا من تقوية نفوذها داخل أفغانستان كأولوية، بل ربما التخلي عن هذه الأولوية لصالح أولوية أخرى تتمثل في تأمين الأحوال على جانبي الحدود الباكستانية الصينية، والذي بغيره لا مجال لنجاح إقامة المنطقة الاقتصادية الباكستانية الصينية المزمع إنشاؤها ضمن مشروع «طريق الحرير». ولعل ما قاله رئيس هيئة أركان الجيوش الباكستانية، الجنرال راحيل شريف، مؤخراً في حفل بمناسبة الذكرى الثامنة والثمانين لتأسيس الجيش الصيني، من أن بلاده لن تتهاون أبداً في ضرب كل من يحاول تهديد مشروع «طريق الحرير» مهما كلف الأمر، يؤكد كلامنا هذا.