دخل النظام التركي في حرب مع عناصر حزب «العمال الكردستاني»، يمكن وصفها بأنها حرب جديدة قديمة، تكرر استخدامها كثيراً في فترات سابقة لمغازلة الشارع التركي. وإعادة إحيائها مؤخراً تنفي ماكان حزب أردوغان يتباهى بتحقيقه، على صعيد السلام مع الأكراد، وإنهاء المشكلة الكردية المشتعلة منذ عقود في تركيا. والواضح أن ما يحدث يمثل محاولة مستهلكة من قبل جناح الصقور في الحزب الإخواني في تركيا، ربما للانتقام أو للتغطية على خسارته للأغلبية النيابية في الانتخابات الأخيرة، والتي أزاحت حزب «العدالة والتنمية» بزعامة أردوغان من الاستئثار بتشكيل الحكومة منفرداً ووضعته في موقف صعب. لذلك اضطر من خلال افتعال العراك مع الأكراد لصناعة أو إعادة إحياء جبهة مفتعلة، لتجميل وجه حزبه الخاسر. كما يحاول من خلال معركته الجديدة القديمة استثارة الشارع التركي، ومغازلة عاطفته التي تميل في سقفها العلماني الغالب لاعتبار الهوية التركية وأمنها خطها الأحمر. وتأتي استثارة أردوغان لعاطفة الشارع العلماني في تركيا ضد الأكراد بعد فوز التجمع الحزبي الذي انضوى تحته الأكراد بمقاعد نيابية يعتبر حزب أردوغان أنها اقتطعت من نصيبه ومن أغلبيته التي انتهى عهدها. وبذلك دشنت الانتخابات الأخيرة بدء العد التنازلي لانحسار هيمنة أردوغان وجماعته. بطبيعة الحال لم يستمر تباهي حزب أردوغان طويلاً بحل القضية الكردية، واتضح أن ما حدث كان مجرد ترحيل للإشكالية لا أكثر. كما يفصح تعاطي حزب أردوغان مع المسألة الكردية عن انتهازية واضحة، وعن استعداده لتفجير الصراع بين الجيش والأكراد لأغراض سياسية تتعلق بحماية أسهم «العدالة والتنمية» من الانهيار. لا ننسى أيضاً أن الأكراد انشغلوا مؤخراً على أكثر من جبهة بالاشتباك مع تنظيم «داعش» في مناطق عديدة. وجاء استئناف أردوغان لمقاتلة الأكراد وهم في ذروة مقاومتهم لزحف «داعش» على مناطقهم في الحدود بين سوريا وتركيا. عودة المعارك بين الجيش التركي والأكراد تزامنت أيضاً مع واقعة التفجير الذي شهدته بلدة سروج التركية والمتهم بتنفيذه «داعش»، فيما حمّل «العمال الكردستاني» مسؤوليته لحزب «العدالة والتنمية». ويريد النظام التركي إقناع العالم هذه الأيام بأنه يحارب «داعش»، بعد أن فاحت رائحة تواطؤ حكومة أردوغان مع الجماعات الإرهابية في المنطقة، بما فيها «داعش»، الذي ابتلع مساحات شاسعة من سوريا والعراق. لم تكن مؤشرات دعم النظام التركي لجماعات العنف الإرهابية مجرد اتهامات خالية من الدلائل، فالطيران المدني التركي أسهم في تشكيل جسر جوي غير معلن لنقل الإرهابيين من كل مكان إلى أسطنبول، ومن ثم إرسالهم عبر الحدود التركية للعبث بطموح الشعب السوري في إقامة نظام جديد. ومن يتابع أرشيف بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية يجد أن العديد من عناصر «القاعدة» رحلوا من بقاع مختلفة إلى تركيا عبر ذلك الجسر الجوي المشبوه، وبرعاية تركية رسمية لم تعد في خانة الأسرار. ونعلم أن منظومة التطرف تنقسم إلى جناحين؛ عسكري متطرف يباشر القتل والخطف وقطع الرؤوس واحتلال المناطق، وسياسي يتمثل في قيادات التنظيم الدولي للإخوان، المصرية والعربية الفارة المقيمة في تركيا. استضافة تركيا للجناح السياسي للإرهاب في العالم العربي لا تزال قائمة، وما تزال الحرب الإعلامية والتحريضية التي يقودها هذا الجناح ضد مصر والإمارات مستمرة. وتستضيف العاصمة التركية في فنادقها أبرز رموز التطرف الإخواني من دول متعددة، مثل مصر وليبيا وسوريا واليمن، ولديها جميعاً منابر إعلامية في اسطنبول. إجمالاً وجد المتطرفون في تركيا حاضنة رسمية تحميهم وتوفر لهم دروب الوصول إلى مناطق الحرب، كما توفر للمنظرين وأصحاب فتاوى التكفير الفنادق والمايكروفونات والقاعات والتغطية الإعلامية. ولا تزال العاصمة التركية حتى اليوم منصة إخوانية للهجوم على مصر وللتدخل في شأن الشعب المصري وخياراته. ومجمل ندوات المتطرفين في فنادق تركيا مهووسة ومنشغلة بالبكاء على أطلال «الإخوان» في مصر، وباستنكار توجه الشعب المصري الذي انحاز لاستعادة الدولة ومحاربة التطرف وإعادة الاستقرار. المستجدات الأخيرة في تركيا كلها ناجمة عن هزيمة حزب أردوغان في الانتخابات الأخيرة، ومن فقدانه فرصة تحويل النظام في تركيا إلى نظام رئاسي ليشبع نهمه في إعادة بناء شخصية الخليفة العثماني بنمط جديد يرتدي ربطة العنق.