جاء في بعض الأثر أنّ علياً رضي الله عنه ذكر «العامة» في إحدى خُطَبه في معرض الذم، فسأله بعضُ مستمعيه عمن يقصد بالعامة فقال: هم الذين إذا اجتمعوا خَرّبوا، وإذا افترقوا لم يُعرفوا! ولا أدري إن كانت النسبة إلى علي صحيحة، إذ المعروف أنّ «العامة» هم الذين وقفوا معه بالمدينة بعد مقتل عثمان وأَرغموا عِلْيةَ القوم على بيعته، وثبتوا معه بالكوفة عندما شاعت الانقسامات في جيشه خلال صفّين وبعدها. مناسبةُ هذا الحديث خروج «الجمهور» الشيعي (نسبةٌ معتبرةٌ من السنة) في بغداد والمدن العراقية الأخرى (خاصة البصرة) للمطالبة بالإصلاح والخدمات، في إشارة واضحة بدت في الشعارات المرفوعة ضد المالكي الذي ساد العراق طوال ثماني سنوات، وبدا حينها أنّ أكثرية الجمهور الشيعي معه حتى في تصريحاته وأعماله ذات الطابع الطائفي مثل القول في كربلاء إبّان الانتخابات الأخيرة إنّ حربه هي الحرب الأبدية بين أتباع الحسين وأتباع يزيد! ومن تكوَّن «الحشد الشعبي» الذي أيدته المرجعية الدينية الشيعية، والذي نظم بعض فِرَقه الجنرال سليماني، وقامت بعض ميليشياته بأعمال طائفية كثيرة ضد السنة. هذا الجمهور نفسه، هو الذي يخرج بعد عام ونصف في نزوع غير طائفي، ومنطقه العميق أن المشكلة ليست سنية شيعية، بل هي مشكلة الفساد الذي صنعه المالكي وميليشياته! أيُّ التحركين هو الأولى بالاعتبار؟ وهل يمكن في حالات التفلت الكبيرة هذه الركون إلى الجمهور؟! الأمر مشكل إذن فيما يتعلق بحركات الجمهور العراقي، الذي يمكن فيما يبدو في ظروف التوتر والانقسامات توجيهه وإعادة توجيهه، واستثارته أو إخماده. فلنتجه إلى خارج الساحة العراقية، ولنبق في العالم العربي، لنرى هل تمكن المقارنة في ظروف مختلفة؟ ما كانت أحداث مصر وتونس عام 2011 حركة جمهور بل شبان ونُخَب ثم نزل الجمهور. وبينما انتظم الأمر نسبياً في تونس بين حركة الجمهور والتغيير السياسي، فإنّ مصر شهدت على مدى عامين عواصف انتهت 2012-2013 إلى بروز الإسلاميين. ويومها تحركت جماهير هائلة، وطالبت الجيش بالعودة إلى السلطة لفرض النظام. لقد خاف الجمهور على الدولة وعلى نظام الحياة بالبلاد، فتحرك بمصر، كما تحرك بتونس من خلال الانتخابات، لإزاحة تيارات الإسلام السياسي من السلطة. وهكذا فإذا كانت عواصف التأزم بالعراق، والتعدد الإثني والديني منذ الاحتلال الأميركي عام 2003 يصعب معها تتبُّع ترمومتر مزاج الجمهور، فإنّ واقع التجانس الشعبي بكل من تونس ومصر يسمح بوضع تقدير مقارب ومقبول لقوانين وقواعد حركة الجمهور حتى في ظروف الاضطراب. وهو أمر يسميه ابن خلدون: سُنَن الاجتماع البشري أو الإنساني. ويتبين من النموذجين التونسي والمصري أنّ الرغبة بالتغيير تعتمل في نفوس الشبان الذين يمتلكون وعياً يدخل في سياق الوعي العام أو العالمي من أجل التساوق أو المواءمة. وإذا شعر الجمهور أن مصالحه تنخدم بحركة الشبان (كما حدث بشرق أوروبا بعد عام 1990) فإنه يندفع بنفس الاتجاه ويُكسبه زخماً بحيث يؤدي ذلك إلى تسريع التغيير وتحديد أهدافه. لكن: هل يطّردُ ذلك؟ الأطّرادُ حاصل إنما غير الحاصل هو الاستمرار إلى حين تحقيق التغيير الجذري. فالاستمرار يتعلق أيضاً بالتحديات التي تأتي من مدى صمود الواقع القائم من جهة، ومن مدى وجود قيادة موحدة تتحكم بالوتيرة، وتستجيب لتحديات الواقع القائم الذي قد يلجأ لعنف هائل، مثلما حدث بتشيلي في السبعينيات، وبسوريا في السنوات الأخيرة. ثم هناك الأمور العارضة أو الطارئة مثل الغزو الخارجي للبلاد، وحدوث فوضى ناجمة عن ضعف القيادة. وفي الحالتين قد ينقلب الجمهور إلى خائف على المجتمع والدولة كما حدث في مصر، وكما يحدث في ليبيا، وحدث من قبل في الجزائر، بل وحدث أثناء الثورة الفرنسية أواخر القرن التاسع عشر. إنّ ما يحدث في العراق اليوم، وقد حدث مثله عام 2011، يرجّح إمكان الاطمئنان إلى حركة الجمهور. والأمور الاستثنائية الطارئة لا تنفي القاعدة السالفة الذكر، وإن كان الانزلاق إلى العنف هو أكبر ما يهدد حركيات الناس من أجل التغيير البنّاء.