يقوم المنهج التحليلي على تفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصر يتم التأليف بينها في حزمة غير متجانسة من الواقع أو العوامل التي أنشأتها. فالظاهرة الفكرية ظاهرة مركبة تركيباً صناعياً يمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية حتى يتم توضيحها وفهمها. فإذا كان المنهج التاريخي يقوم باستبدال واقعة مادية بالظاهرة الفكرية، فإن المنهج التحليلي يقوم بعد ذلك بتفتيت هذه الظاهرة الصناعية وردها إلى عناصرها الأولية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. وهكذا أصبح العنصر الديني مع أنه هو الدافع الأول لتكوين الظاهرة عنصراً مساعداً لبقية العناصر، ضامراً، متقوقعاً على نفسه. ففكرة العوامل التي تحدد تكوين الظاهرة وتتحكم فيها، وفكرة العناصر التي تتكون منها مادة الظاهرة، لا يمكن أن تساعد على فهم الظاهرة الفكرية التي نشأت طبقاً لمنهج في تفسير النصوص أي طبقاً لمنطق في فهم الوحي وحسب منطق عقلي آخر حدد طبيعة البناء النظري للظاهرة الفكرية الناشئة من تحول الوحي إلى حضارة ليست ظاهرة مركبة تركيباً صناعياً من عناصر ووقائع مادية أنشأتها عوامل تاريخية بل ظاهرة معنوية نشأت من تحول النص في شعور المفكر إلى معنى، فهي امتداد للنص على مستوى الفكر. والأمثلة كثيرة على ذلك، فعديد من الدراسات على المسائل الجزئية في علم الكلام لا تعطي نظرة شاملة على أساس هذا العلم ولا تدرك جوهره. وكذلك عديد من الدراسات الجزئية عن عصر الترجمة وأسماء المترجمين وعناوين ترجماتهم لا تعطي كلاً شاملاً عن معنى الترجمة والدور الثقافي الذي قامت به في تمثيل الفكر الأجنبي وتمثله واحتوائه داخل لغة الحضارة الجديدة ونشأة لغة جديدة للتعبير بها عن المعاني الواردة. ونظريات متفرقة من هذا الفيلسوف أو ذاك في علمه أو فلسفته أو طبه أو رياضياته لا تكشف عن حدس الفيلسوف ومنهجه وتصوره الذي يحاول به التعبير عن أفكاره. وتحليلات جزئية لمناهج الرواية لا تكشف عن المناهج العامة للنقد التاريخي التي وضعها علماء الحديث والأصول، وتفريعات متناثرة عن اللغة لا تكشف عن منطق اللغة والصلة بين اللفظ والمعنى والشيء. ونظريات متناثرة عن العلوم العقلية الإسلامية لا تكشف عن بناء علم للحضارة الإسلامية وتطورها، تظهر فيه الحضارة كوحدة عضوية واحدة. وقد نشأ تفتيت الظواهر إلى عناصرها الأولية من عقلية الباحث الغربي ومزاجه وثقافته وبيئته وطبيعة الثقافة التي نشأ فيها وطريقة تحولها إلى حضارة عن طريق الرفض و ردود الأفعال. فإذا نظر المستشرق إلى نشأة الفرق الإسلامية فإنه قد يحكم على هذا بفهم خاطئ. وعندما رفضت العصور الحديثة في الغرب كل الموروث القديم عن طريق رد فعل هائل ضد السلطة الموروثة ظهرت الأفكار الجديدة من خلال ظروفها الاجتماعية وبيئتها الثقافية. فمنها ما نشأ نشأة سياسية ومنها ما نشأ نشأة اجتماعية، ومنها ما نشأ نشأة اقتصادية. وهكذا يمكن تفسير نشأة الأفكار وتطورها منذ عصر النهضة حتى الآن في الثقافة الغربية عن طريق البحث عن العوامل التي سببت نشأتها. ويجوز في كثير من الأحيان تفسير الظاهرة بعامل واحد وبذلك تنشأ العقلية أحادية الطرف تتقلب على العوامل، واحد تلو الآخر، لا تستقر على حال. وانتقلت الثورة على الموروث إلى هذا الموروث ذاته تبحث عن مصادره فتحللت النصوص. ولما أثبت التحليل جدارته في بعض النصوص الدينية في الغرب، ولما كان المستشرق في النهاية باحثاً غربياً نشأ وتكون في الثقافة الغربية ربما ظن أن ما حدث في بيئته لابد وأن يكون قد حدث ضرورة في كل بيئة أخرى، وهذا هو خطر تعميم الجزء على الكل. لقد سارت العقلية الأوروبية في المناهج التحليلية لأنها اصطدمت بمعطياتها مركبة أضرّت بها وبواقعها، وكان لزاماً عليها تحليلها للكشف عما إذا كانت معطيات صحيحة أو باطلة، فالتحليل باعث في الشعور الأوروبي كوسيلة للكشف عن الزيف والبطلان.